الموت يغيّب «شيخ الكار» المخرج هشام شربتجي

 عن 75 عاماً غيّب الموت اليوم الثلاثاء المخرج السوري هشام شربتجي (1948 - 2023)، الذي أصيب بجلطة دماغية منذ عامين تقريباً. ورغم تحسن حالته، فقد بقي يعاني أعراضها إلى حين وفاته.

ويعدّ شربتجي المولود في دمشق من مؤسسي نهضة الدراما السورية في العقدين الأخيرين، ولاقت أعماله رواجاً واسعاً في العالم العربي.

شربتجي الملقّب بــ"شيخ الكار"  كانت له بصمة كبيرة عندما أطلق مع ياسر العظمة سلسلة "مرايا"، وصولاً إلى العديد من الأعمال الكوميدية والدرامية الناجحة، نذكر منها: يوميات مدير عام، وعائلة 7 نجوم، وجميل وهناء، وأحلام أبو الهنا، وأزمة عائلية، وغيرها الكثير. 

هشام شربتجي.. "شيخ الكار" انتصر للفن البسيط

ربما لا يعلم كثيرون أن المخرج السوري هشام شربتجي (1948 - 2023) الشغوف بالرسم عبر الكاميرا والكتابة بها، بدأ اكتشاف موهبته بالرسم منذ سن السابعة في بداية دراسته الإبتدائية، وحينها حصل على المرتبة الأولى على مستوى العالم ضمن مسابقة لرسوم الأطفال، ورغم أنه انجرف في يفاعته مع بعض أفراد عائلته المهتمّين بالصيد إلى تلك الهواية.

لكن شربتجي، الذي رحل بعد تعرضه لأزمة صحية ألزمته المستشفى لفترة، قرّر الابتعاد عن قتل الأرواح الحيّة، مُلتجئاً إلى رياضة الرماية بالرمح، وهو ما ساعده في مهنته بتسديد أضوائه نحو أهدافه بدقّة، لكنه فوق الرسم ودقّة التصويب كان في شبابه مهووساً بالنظر إلى سماء دمشق ليشاهد مرور الطائرات المدنيّة فيها، ما شكَّل لديه حلماً بأن يكون طيَّاراً.

وهو منذ طفولته كان يحب المهن القيادية ولا يفضّل أن يكون منقاداً أو تحت إمرة أحد. 

هكذا تسجَّل في معهد الطيران في مصر، لكن قصف المعهد أثناء حرب 1967، والتأخّر في إعادة بنائه، جعله يكمل في أكاديمية الفنون "قسم المسرح" التي كان مُنتسباً إليها في الوقت ذاته، ليتابع في ما بعد حلمَه بالطيران بواسطة الكاميرا، ورسم كوادرها بدقّة، واختيار زواياها بعين الصيَّاد الذي يُحيي من يقف في مرمى لقطاته.

تكوين شربتجي الفكري والثقافي جعله لا يعمل إلا ما يشعر بالانتماء إليه، لذا كان من المخرجين الباحثين دائماً عن مشروع، من دون أن يستكين لمتطلّبات السوق أو شركات الإنتاج، فهو يعتبر نفسه منذ بداياته الفنية شخصاً غير قابلٍ للتكليف، لدرجة أنه يقول في إحدى حواراته إن "ما تمّ تكليفي به من أعمال هو نقاط عار في حياتي الفنية".

هذه النزعة نحو التماهي في كل ما يشتغل عليه، والذَّوبان الواعي فيه، مع إدراكه لخصائص كل الأنواع الدرامية التي عمل فيها، جعله علامة فارقة في الإخراج التلفزيوني، لا سيما في ظلّ إيمانه بما أسماه ذات مرة بـــ "الفن البسيط" القائم على نقل كل معارفه ومعلوماته وثقافته وما تعلَّمه سابقاً، وتسخيره في خدمة البيئة الاجتماعية البسيطة، من دون البقاء في برجٍ عالٍ يُطِلّ عليها، ولا أيّ نوع من الامتهان لبساطتها.

حتى أن شربتجي يُشبّه ذاك النمط من الفن بما فعله منير بشير بالنسبة إلى آلة العود، إذ استطاع إدخالها إلى الأوركسترا على الرغم من بساطتها وضعفها، بلا تعقيدات ولا تعالٍ على المشاهدين. لهذا فإن المُراقِب بعين ناقدة للأعمال الدرامية التي جاءت بتوقيع شربتجي إخراجياً، على تباين أفكارها وتصنيفاتها، سيتلمَّس روحاً واحدة متوقّدة، قادرة على صناعة الفرح بالصورة ضمن أعمال من مثل "مرايا" و"بقعة ضوء" بجزئه الخامس، و"عائلة 7 نجوم" وحتى "عائلة 8 نجوم"، و"يوميات مدير عام"، و"البناء 22"، و"أحلام أبو الهنا"، و"أزمة عائلية"، وغيرها.

كما سيلحظ المراقب في الوقت ذاته تمكّن شربتجي في صوغ تراجيديات مسلسلاته الاجتماعية كما في "أيامنا الحلوة" و"رياح الخماسين"، و"أسرار المدينة"، و"المفتاح"، مع قدرة فائقة على تحويل السُّمّ إلى ترياق، إذ كثيراً ما أعلن أن: "من مهام الفن تحويل الدَّمامة إلى جمال، واليأس إلى أمل، والعنف إلى حوار، وليس قراءة مانشيتات كبيرة ثم الخلاص إلى نتائج صغيرة".

مدير الإضاءة والتصوير يزن شربتجي حكى عن والده بالقول: "ما زال يبهرني بكميّة المعلومات الجديدة التي يعرفها، عن الإضاءة والكاميرات الحديثة وتقنيات التصوير والغرافيك وكل ما يتعلّق بهذه المهنة من حداثة وتطوّر. إذ لديه مثابرة في متابعة كل جديد، ولم يفقد الشغف نهائياً في مزيد من المعرفة، ومنه تعلّمت شغفي الزائد عن اللزوم بالعمل، رغم قوله بأنه يتعلّم مني ومن أختي رشا هذا الشغف".

أما على صعيد رؤيته الدرامية في كل ما اشتغله، فقال يزن، إن "لدى والدي موهبة غريبة بالجمع ما بين الثقافة الأكاديمية العالية التي يتمتّع بها بعد سنوات من القراءة المُعمّقة والسفر والمتابعة لكل شيء، وبين ثقافة الشارع وثقافة التفاصيل الحياتية التي يمتلكها، ويتعامل وفقها مع مختلف شرائح الناس على اختلاف مستوياتهم المعرفية، ومع مُتابعي أعماله، إذ لديه القدرة على مواءمة تفكيره لخدمة الدراما، كما أنه يمتلك موهبة قيادة الممثّلين بسلاسة باهرة، ليُخْرِجَ منهم ما يريده، ولو كان ذلك بطرق استفزازية في بعض الأحيان، لأنه بطبيعته استفزازي، وعندما يريد منك شيئاً يستفزّك إلى أقصى درجة. وأيضاً هو مولع باللعب على الكلام العامي لإعطائه معانٍ أخرى غير عادية، ويحب أيضاً اللعب بموقع التصوير لخدمة رؤيته".

وعند سؤالنا عن الأثر المتبادل بين الأب والإبن على صعيد المهنة، أوضح يزن: "أغار منه إلى أبعد حد، رغم أنني لا أظهر له ذلك دائماً. أحبّه كثيراً، وأتمنّى في يوم من الأيام أن أصل إلى 10% من هشام شربتجي". 

مُخرج "بطل من هذا الزمان" يحب المغامرة في مهنته، سواء على صعيد تبنّي النصوص، أو اختيار الممثّلين الجُدُد، إلى جانب شغفه بالمغامرات الإخراجية التي يُدير مفاصلها بدقّة.

ومن بين الكتّاب الذين أخرج لهم أول نصوصهم الدرامية الدكتور ممدوح حمادة الذي قال : منذ أول شراكة بيننا والتي استمرّت لخمسة أعمال، لفت انتباهي دقّة الصديق هشام شربتجي في قراءة ما بين السطور، وقدرته على إيصال الرسالة التي يحملها النصّ، وتصرّفه مع النصّ باحترام ودقّة. باختصار كنت عندما أعطي نصّي لهشام آمن عليه، ثم شاءت ظروف العمل أن يذهب كل منا في اتجاه، ولو كنت مقيماً في سوريا لجمعتنا معاً أعمال جديدة بكل تأكيد".

ولأنه ليس من السهل التعامل مع الكوميديا، كون الجمهور لا يقف منها موقفاً محايداً، فهو إما يكرهها أو يحبّها، بخلاف باقي الأنواع الدرامية، التي قد لا يتقبّلها لكنه لا يدينها، فإن هشام شربتجي، والكلام لحمادة، "كان ماهراً في إمساك عصا المايسترو في هذا المجال، ونجح في غالبيّة أعماله في التفاعل مع الجمهور وجعله يحب هذه الأعمال التي من بينها ما كتبته، وكان في الكثير من مسلسلاته مغامراً يرقص على حافّة الهاوية، وفي الكثير من الأحيان كان يوشك على السقوط في هذه الهاوية، لكنه كان يتقن لعبته فلا يفعل ذلك. قد توحي لك بعض التفاصيل بأن هشام بعدسته ذاهب إلى التهريج، في حين أنه عند النقطة الملائمة كان يقف ليعود إلى ملعبه، رغم أن التهريج أحد أصعب أنواع الكوميديا، وشارلي تشابلن أشهر كوميدي في التاريخ كان مهرّجاً". 

ومن الفنانين الذين شاركوا شربتجي في الكثير من أعماله، لا سيما الكوميدية منها، كان الفنان أيمن رضا الذي أوضح، أنه يشعر بأن الأزمة الصحيّة التي ألمَّت بالمخرج شربتجي والذي يعتبره مدرسة من مدراس الإخراج في الدراما السورية، ناجمة عن كون هشام "يشعر بتعب دمشق، فهو من أكثر الأشخاص الذين تحدّثوا عنها وعن ناسها في أعماله، وحاول أن يملأ قلوبهم بالفرح، ويرسم على شفاههم البسمات".

وأضاف رضا: "من أهمّ مزايا هشام شربتجي في إخراجه للأعمال الكوميدية أن ضحكته كانت مسموعة، ولذلك فإن إيقاعه جاء صحيحاً، كما أنه كان على الدوام قريباً من الشارع، ومواكباً له، لأنه يعرف أن الكوميديا متبدّلة كل يوم وليست ثابتة مثل التراجيديا، وأسلوبه الإخراجي يتميّز بإيقاعه المنضبط، كونه بدأ بالإذاعة ثم التلفزيون، لذا استطاع أن يستفيد من هذا الموضوع، أضف إلى خبرته بالكاميرات وبالإضاءة والتصوير، ففي حال غياب مصوّر كان يعمل مكانه، وعندما يتغيّب فنّي الإضاءة يشغل محله، وهكذا".

واعتبر الفنان أيمن رضا أن شربتجي من "المخرجين القلائل الذين ختموا المهنة، ويفهمون بكل تفاصيلها من الإضاءة إلى الكاميرا إلى الصوت والديكور... على عكس مخرجي هذه الأيام الذين يعرفون فقط حركات الكاميرا وحجم اللقطات وإدارة الممثّل، أما هشام فحياته المهنية العملية جعلته يستوعب كل تلك المساحات الفنية ويعرف بها، ولهذا ترى أن معظم أعماله سواء الكوميدية أو الاجتماعية ما زالت محتفظة بطزاجتها، والسبب يعود إلى مواضيعها الإنسانية، وبساطة تناولها، وإخراجها البسيط الخالي من الفذلكات". 

من أكثر ما تحسَّر عليه هشام شربتجي في الدراما السورية، هو افتقادها للاختصاص الحقيقي. إذ ذكر "شيخ الكار" في عدّة حوارات له، أنه يفتقد إلى مهندس صوت من رتبة رياض الزعبي، وإلى ماكيير من أمثال صبحي المصري، وإلى مدير إضاءة وتصوير بحساسية هشام المالح وغيرهم. لماذا؟

ولأن الدراما السورية نهضت بمثل هذه القامات وكانت تتمسّك بأخلاقيات المهنة، ولا تفسح المجال للمتطفّلين غير الأكفاء، بعكس هذه الأيام التي استبيح فيها الكثير من المهن الدرامية، ومن ضمنها الإخراج، الذي لم يعد كما يراه شربتجي مهنة سامية، وحارساً على قيم أجيال عديدة، بل صار مطيّة لقليلي الموهبة الذين لا يمتلكون رؤية ولا همّاً إنسانياً، لذا أعلنها مراراً وتكراراً صاحب "رجال تحت الطربوش" بأن "الدراما السورية في خطر كبير وبحاجة إلى إعادة ترتيب من الداخل". 

وكتب الممثل السوري بسام كوسا: «الرحمة لروح شيخ الكار والمخرج الكبير».

كما نعاه الممثل السوري باسم ياخور، في منشور عبر صفحته على «فيسبوك»، وصفه فيه بأنه «صانع الضحكة» و«معلم المهنة».

ويُطلق الفنانون والممثلون على شربتجي لقلب «شيخ الكار»، أو «شيخ كار الكوميديا السورية»، لما له من علامات فارقة عبر مسلسلات كوميدية حفرت في الذاكرة السورية ولاقت رواجاً عربياً، أبرزها مسلسل «مرايا» الذي أطلقه مع الممثل ياسر العظمة عام 1984، ومسلسلات شهيرة أخرى بينها «عيلة خمس نجوم» و«يوميات مدير عام» و«بقعة ضوء».

وتزوّج شربتجي من سيدة مصرية، وله ثلاثة أبناء، بينهم المخرجة رشا شربتجي التي ورثت المهنة عن أبيها وبرزت في مجال الدراما.

وفارق شربتجي الحياة في أحد مستشفيات دمشق بعد تراجع حالته الصحية في الفترة الأخيرة، إثر تعرضه لجلطة دماغية قبل حوالى عامين.

ولم تحدد بعد تفاصيل الدفن والجنازة.