مئوية السينما التونسية: أرض الهوية وإعادة اكتشاف الواقع

 تمتد التظاهرات التي تحتفي بمئوية السينما التونسية سنة كاملة، وقد بدأت منذ شهر كانون الأول/ديسمبر عام 2022، لتتواصل إلى الشهر نفسه من العام 2023. 

وتوزعت العروض بين الأفلام والمعارض الفنية والمحاضرات والنقاشات، وشملت مؤسسات ثقافية في أغلب ولايات البلاد، فما هي أهم خصوصيات السينما التونسية؟

نشأة الفن السابع في تونس وتطوّره

كانت سنة 1922 البداية المفصلية لميلاد سينما تونسية، حين أخرج ألبير سمامة الشكلي فيلم "زهرة" وتلاه عام 1924 فيلم "عين الغزال"، وتم إخراج شريط "مجنون القيروان"، وبعد استقلال تونس عرض فيلم "الفجر" للمخرج عمار الخليفي.

وفي العام 1946، تأسس أول ناد للسينما في تونس، ليتبعه بعد ذلك تأسيس الجامعة التونسية لنوادي السينما، ثم في عام 1964 تكونت الفيدرالية التونسية للسينمائيين الهواة. أما جمعية النهوض بالنقد السينمائي فقد بدأت نشاطها سنة 1986.

وقد مثل "مهرجان قرطاج السينمائي" الذي أسسه الطاهر شريعة مع عصمان صمبان سنة 1966، اللبنة الأساس في إشعاع السينما التونسية على المستويين العربي والأفريقي، وكان نقطة ضوء مكنت من اكتشاف نجوم تونسيين وعرب ممن عملوا وراء الكاميرا وأمامها، سواء بالتمثيل أو الإخراج أو الكتابة، أو على المستوى التقني.

وكان هذا المهرجان أيضاً جسراً وأداة تواصل بين السينما التونسية والعالمية. ويعدّ العبور من هذا المهرجان ورقة اعتراف بقيمة الجوائز التي يمنحها، فقد وصل سينمائيون تونسيون إلى مسابقات مهرجان "كان" و"هوليوود" منهم عبد اللطيف كشيش وكوثر بن هنية.

أرض خصبة لاحتضان الفن السابع 

عرفت تونس بأنها أرض صالحة لتصوير الأفلام الأجنبية منذ عشرينيات القرن الماضي إلى الألفية الجديدة، ونذكر من هذه الأعمال فيلم "مسيح الناصرة" لفرانكو زيفرلي، و"حرب النجوم" لجورج لوكاس، و"المسيح" لروبرتو روسيليني و"المريض الإنكليزي" لأنطوني دي ميغالا.

في حوار له مع مجلة "لوفيغارو"، أعلن المخرج ستيفن سبيلبرغ أنه شاهد بطل فيلمه "أي تي"  يهبط في سماء الجنوب التونسي، وهو تعبير مجازي لتوصيف رحابة الصحراء وصفاء السماء في تونس.

زخرت المدوّنة السينمائية بأسماء مخرجين تركوا بصمتهم، منهم: الطيب الوحيشي وعبد اللطيف عمار ومحمود بن محمود والناصر القطاري والناصر خمير.

ومن الأفلام التي مثلت منعطفات في تاريخ السينما نذكر فيلم "سجنان" و"عبور" و"صفائح من ذهب" و"عرب وحلفاوين" و"خليفة الأقرع" و"تحت مطر الخريف" و"شمس الضباع" وغيرها.

يتحدث المخرج علي منصور عن مرحلة البدايات والجيل المؤسس للسينما التونسية، وكذلك ارتباط كل عشرية بجملة من القضايا التي تتم معالجتها سينمائياً. 

ويقول إن هناك سمات واضحة لكل جيل من المخرجين الذين تجمع بين أفلامهم ثيمات يتم طرحها، إذ إن "جيل الاستقلال الذي عالج قضايا الكفاح والمقاومة ليس هو نفسه من سيطرح مشكلات الهجرة والاندماج، وسيليه جيل آخر يبحث في مجال المسكوت عنه اجتماعياً".

وتطرق منصور إلى ما يسمّى الفترة الذهبية للسينما التونسية، وهي "عشرية شهدت تنوعاً وثراء كبيراً في الأعمال المقدمة للجمهور. كما كانت فترة ثراء على مستوى المعارف التقنية؛ بفضل احتكاك التونسيين بمخرجين عالميين صوّروا أفلامهم في تونس". 

وتحدث أيضاً عن عدم تأثر السينما التونسية بالسينما المصرية، "فقد خطّت لنفسها طريقاً صنعه مخرجون شباناً يحملون شهادات عليا من جامعات أجنبية غربية، مشيراً إلى "تطور مسارات السينما التونسية مع الجيل الجديد الذي استفاد من الثورة الرقمية وأنجز أفلاماً تعتمد في المقام الأول على المؤثرات البصرية أكثر من اعتمادها على قوة المواضيع المطروحة للنقاش، كما كان الشأن بالنسبة إلى سينما المخرجين المؤلفين حيث يطغى الخطاب الجمالي المجسد في المضامين وفي ثراء الشخصيات وتفاعلها مع الواقع". 

ورأى منصور أن "هذا ما يفسر الفرق بين الاعتماد على قوة الكلمة والاعتماد على قوة الصورة والإبهار". 

من جانبه، تطرق المخرج حبيب المستيري إلى مسألة جوهرية في السينما التونسية وهي هامش الحرية المتوفر في الأفلام، والذي راهن عليه السينمائيون منذ بدايات تشكل وعيهم إذ إن "الفن ينمو في أرخبيلات الحرية وليس القمع بصرف النظر عن البروباغندا، التي كانت تعبّر عن توجّه السلطة في تونس إلى تدجين السينما في البلاد"، مضيفاً أن "نوادي السينما ساعدت على تشكل الرفض، وكسر قيود الرقابة، وتشكل الوعي العميق بما تحققه الحرية من انعتاق للفرد والمجموعة معاً".

وعرّج المستيري على موضوع قلة الأفلام التونسية المنتجة سنوياً الذي عزاه إلى "ضعف تمويل الدولة للأعمال السينمائية، ما يفتح الباب أمام إيجاد سبل للتمويل الذاتي، والبحث عن بدائل داعمة، زيادة على الدور الفعال الذي تلعبه الجمعيات ونقابات المخرجين والمنتجين والممثلين وصنّاع السينما في الدفاع عن هوية السينما التونسية، وتوجهها نحو ترسيخ نمط جمالي وذائقة فنية لها خصوصيات محلية لا تنفصل عن محيطها الجغرافي". 

ورأى المستيري أنه "رغم الأنشطة وتكاتف الجهات الفاعلة في المشهد السينمائي من منتجين وصانعي أفلام، فإن التمويل يبقى مشكلة كبيرة بينما هناك تقاليد عالمية معتمدة بين القطاعين العام والخاص"، مؤكداً "العلاقة الأفقية والتشاركية التي أصبحت موجودة بين سلطة الإشراف الرسمية وبين المبدعين لإيجاد حلول للنهوض بقطاع السينما". 

وقال المستيري إن السؤال المطروح اليوم هو: "كيف للمنظومة التقليدية على المستوى الإداري أن تتطور لتساهم في النهوض بالسينما، وكيف يمكن الحفاظ على صورة السينما التونسية التقدمية التي تحمل قضايا كان قد حمل همومها اليسار التونسي في أزمنة الصراع مع السلطة"، مشيراً إلى أن "السينما فن مكلف في ظل غياب المؤسسات الاقتصادية الداعمة".

الأكاديمي إقبال زليلة تطرق من جهته إلى أهم سمات السينما التونسية في السنوات الأخيرة، وهي "إيجاد تنوع في الأجناس الفنية المطروحة. إذ بقيت الأفلام التونسية ولعدة سنوات شبه منحصرة في مقاربات واقعية متناسية أن السينما بالأساس فن. وهذا المنحى السوسيولوجي الطبيعي تحوّل إلى نوع من الأصل التجاري لبعض المخرجين والمنتجين لضمان التمويل والاعتراف في المهرجانات الكبرى، ولكن هناك بعض المخرجين الشبان الذين أقدموا على مقاربات مختلفة من بينهم المخرج علاء الدين سليم وعبد الحميد بوشناق، أو اختاروا الانسجام مع الواقعية ذات الصبغة الجمالية كمحمد بن عطية".

وأضاف أن "هذه الأفلام نجحت في فرض حضورها عالمياً. فقد أضفت تنوّعاً وساهمت في نوع من التصالح مع المشاهد التونسي وتغيير نظرة الآخر إلينا".

أما المخرجة هادية بن عائشة فرأت أن السينما التونسية "انتصرت لقضايا المرأة وليست المخرجات التونسيات فقط من تبنّاها، بل أحد أهم المخرجين في تونس وهو النوري بوزيد في فيلم "بنت فاميليا" الذي تناول العنف الزوجي وأهمية الاستقلالية المادية للمرأة لتقرر مصيرها".

وفي هذا السياق، نذكر أعمال المخرجة مفيدة التلاتلي التي حصل فيلمها "صمت القصور" (1994) على المرتبة الخامسة ضمن قائمة أحسن 100 فيلم، بحسب استفتاء للنقاد السينمائيين. 

فقد تناول ظاهرة النظرة الدونية للمرأة في ظل الاستعمار والمجتمع الذكوري الأبوي الذي يجمع بين السلطة والمال. 

أما المخرجة سلمى بكار فتشترك كل أفلامها في أنها تحمل سمة نسوية والدفاع عن المرأة كما في فيلمها "الخشخاش".

بثينة الزغلامي - كاتبة صحفية من تونس