Logo

هل يمكن للذكاء الاصطناعي التصرف كعقل بشري؟

 بينما تتسابق شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل "أوبن إيه آي" و"ميتا"، نحو تطوير الذكاء العام الاصطناعي يواصل باحثون في مجالات علم النفس المعرفي استخدام هذه التقنيات لأغراض علمية أشد تركيزاً، 

تتمثل في اختبار الفرضيات حول الإدراك البشري وتفسير أنماط السلوك.

في هذا السياق، طوّر فريق علمي دولي نموذجاً جديداً للذكاء الاصطناعي يحمل اسم "سينتور" (Centaur)، يهدف إلى أداء دور المشاركين البشر في التجارب النفسية، واستنساخ سلوكياتهم وانحيازاتهم المعرفية بطريقة أقرب إلى العقل الإنساني منها إلى الحسابات الآلية. 

ونُشرت تفاصيل هذا النموذج، الأربعاء، في دراسة حديثة في دورية نيتشر العلمية. دشن "سينتور" بالاستناد إلى نموذج LLaMA مفتوح المصدر الذي أطلقته شركة ميتا عام 2023.

وقال عالم الإدراك في مركز هيلمولتز ميونخ الألماني والباحث الرئيسي في المشروع، الدكتور مارسيل بينز، إن ما لفت انتباهه إلى هذه النماذج في البداية هو قدرتها على التفاعل بلغة بشرية منطقية ضمن طيف واسع من الموضوعات، وهو ما لم يكن متاحاً في الأنظمة السابقة. 

وأضاف بينز متحدثاً لصحيفة نيويورك تايمز الأربعاء: "كانت المرة الأولى التي أرى فيها نظاماً حسابياً يُظهر ولو جزءاً بسيطاً من الشمولية البشرية. لم تكن مجرد آلة تصنّف أو تتنبأ، بل تردّ بإجابات معقولة تشبه كثيراً طريقة تفكيرنا".

لتحقيق هذا الطموح، جمع الباحثون بيانات من 160 تجربة نفسية، شملت أكثر من 10 ملايين إجابة من 60 ألف متطوّع بشري، تتنوع بين اختبارات الذاكرة والانتباه وصنع القرار والتعلّم من المكافأة. 

ومن بين هذه التجارب، لعبة تحاكي البحث عن كنز باستخدام مركبة فضائية، وأخرى تتطلب الحفظ السريع لقوائم كلمات، وثالثة تتعلّق بتقدير المخاطر والعوائد من آلات حظ. دُرّب "سينتور" على اختيار إجابات شبيهة بتلك التي قدّمها البشر في ظروف مماثلة. 

وأوضح بينز: "علمناه تقليد الخيارات التي اتخذها المتطوّعون البشريون في كل تجربة، وكأن النموذج يخوض التجربة كما يفعل أي شخص".

أُطلق على النموذج اسم "سينتور" تيمّناً بالكائن الأسطوري ذي الجسد المركّب بين الإنسان والحصان، في إشارة إلى الطبيعة المزدوجة للنموذج: فهو آلة، لكنه يتصرّف أحياناً بعقل شبيه بالبشر.
 
في مرحلة لاحقة، اختبر الفريق مدى تطابق سلوك النموذج مع السلوك البشري الحقيقي. في اختبارات جديدة لم يسبق للنموذج الاطلاع عليها، نجح "سينتور" في التنبؤ بإجابات المتطوّعين على نحو دقيق. 

كما استطاع تطوير استراتيجيات مشابهة لتلك التي توصّل إليها البشر في الألعاب المعرفية، مثل استكشاف الفضاء للعثور على مكافآت. اختبر الباحثون أيضاً قدرة "سينتور" على التعميم.

 فعندما استبدلت المركبة الفضائية في لعبة ما بسجادة طائرة، مع الاحتفاظ بآليات اللعبة نفسها، نتقل النموذج تلقائياً إلى استخدام نفس الاستراتيجية السابقة، تماماً كما فعل البشر. 

لم تتوقف الاختبارات عند هذا الحد. إذ طُلب من "سينتور" حل مسائل منطقية لم يدرّب عليها، فأظهر تمييزاً مشابهاً للبشر: أجاب بشكل صحيح عن الأسئلة التي ينجح فيها أغلب الأشخاص، وفشل في تلك التي يخطئ فيها كثيرون.
 
وفي تجربة سابقة نُشرت عام 2022، راقب متطوّعون لاعبين يتنافسان في لعبة تشبه "حجرة، ورقة، مقص"، وتوصّلوا إلى فهم استراتيجياتهم والتنبؤ بخطواتهم التالية. 

لكن عندما ولدّت الحركات عبر معادلة إحصائية بدلاً من أشخاص، لم يتمكّن المراقبون من فك النمط. "سينتور" واجه الصعوبة نفسها، ما يشير إلى أنه يعتمد بالفعل على أنماط بشرية في التفسير.

أشاد بعض الخبراء بالنموذج، واعتبروه إنجازاً مهماً. وأكد أستاذ علم النفس المعرفي في جامعة ستانفورد، رَس بولدراك، أنه "أول نموذج يمكنه أداء هذا الطيف المتنوّع من المهام بطريقة تشبه المتطوع البشري".

 أما أستاذ علوم الحاسوب في جامعة نيويورك، إيليا سوشولوتسكي، فقال إن "سينتور يتفوّق بشكل واضح على النماذج الإدراكية الكلاسيكية".

في المقابل، أبدى بعض العلماء تشكّكهم في قيمة النتائج؛ انتقدت الباحثة في علم النفس الحسابي في جامعة رادبود الهولندية، أوليفيا غيست، غياب نظرية معرفية واضحة تقف خلف بنية النموذج، 

معتبرة أن "القدرة على التنبؤ وحدها لا تُفسّر العقل". بينما قال أستاذ علم الإدراك في جامعة إنديانا غاري لوبيان: "نحن لا نبحث عن نموذج يتنبأ، بل عن نظرية تشرح". 

وردّ بينز بالقول إن "سينتور لا يمثّل حتى الآن نظرية متكاملة عن العقل، لكنه قد يصبح منصة معيارية لاختبار النظريات المستقبلية، وقياس مدى قدرة نموذج واحد على محاكاة أنماط معقدة من التفكير البشري".

يواصل الفريق حالياً العمل على توسيع قاعدة بياناته، لمضاعفة حجم التجارب التي يتدرّب عليها النموذج خمس مرات، وهو ما قد يفتح الباب أمام أداء أكثر تعقيداً وتعمقاً في المستقبل. 

يأتي ذلك كله في وقت تواجه فيه شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى دعاوى قضائية بشأن استخدام البيانات المحمية بحقوق نشر. 

ورغم ذلك، يبشر مشروع "سينتور" بإمكانات جديدة في العلاقة بين الآلة والعقل، لا من أجل استبدال الإنسان، بل من أجل فهمه على نحو أفضل.