استثمار في العقول.. كيف تُحوّل عُمان نفسها إلى مركز عالمي للتعليم العالي؟
تتحرّك سلطنة عُمان بخُطا واثقة نحو تعزيز مكانتها كوجهة تعليمية دولية، مستندة إلى رؤية وطنية طموحة ومبادرات استراتيجية تقودها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، في سعي لتحويل البلاد إلى مركز عالمي للعلم والمعرفة.
هذا التحول لا يقتصر فقط على تطوير المنظومة الأكاديمية، بل يمتد ليشمل أبعاداً ثقافية واقتصادية ودبلوماسية، تُسهم جميعها في رفع جودة التعليم العالي، وتعزيز موقع السلطنة على خارطة التعليم الدولي.
استقطاب دولي
ضمن جهودها لتحقيق رؤية "عُمان 2040"، تعمل الوزارة العمانية على استقطاب الطلبة الدوليين كجزء من مشروع وطني لتدويل التعليم العالي في السلطنة.
وحول ذلك أكدت المديرة العامة للجامعات والكليات الخاصة مريم بنت بلعرب النبهانية، أن سلطنة عُمان تسعى لتكون نموذجاً أكاديمياً واعداً في المنطقة، بفضل بيئتها التعليمية المتنوعة، ودورها المتنامي في تعزيز الحوار الثقافي والتبادل الفكري.
ونقلت صحيفة عُمان، في 25 يونيو 2025، عن النبهانية قولها: "إن استقطاب الطلبة من مختلف أنحاء العالم لا يُعزز فقط من التنوع الثقافي في مؤسساتنا التعليمية، بل يسهم بعمق في بناء بيئة أكاديمية عالمية تثري الحوار وتفتح آفاق التعاون المعرفي، وهو ما ينعكس إيجاباً على جودة التعليم العالي في البلاد".
وفي سياق هذه الجهود حرصت الوزارة على الحضور الفاعل في المحافل والمعارض الدولية مثل "إكسبو دبي 2020" و"إكسبو 2025 أوساكا"، بهدف تسويق البرامج الأكاديمية والتخصصات التي تقدمها الجامعات والكليات العُمانية، واستعراض ما تزخر به من جودة ومعرفة.
كما جرى التنسيق مع الاتحاد الأوروبي ضمن برنامج "إيراسموس"، حيث أثمرت اللقاءات المشتركة عن حصول مؤسسات عُمانية على منح تعليمية ضمن البرنامج، في مؤشر لافت على الاعتراف الدولي بجودة التعليم العالي في السلطنة.
محلياً أصدرت وزيرة التعليم العالي رحمة بنت إبراهيم المحروقية، قراراً بتشكيل فريق عمل خاص بمبادرة "ادرس في عُمان"، التي تهدف إلى وضع السلطنة على خارطة التعليم العالمية من خلال منصة إلكترونية شاملة، تسهّل على الطلبة الدوليين معرفة كافة تفاصيل الدراسة في عُمان، من البرامج إلى الرسوم والمنح والخدمات المصاحبة.
وبلغ عدد الطلبة الدوليين المسجلين في مؤسسات التعليم العالي العُمانية خلال عام 2024 نحو 3457 طالباً وطالبة، وسط توقعات بازدياد هذا الرقم في العام الجاري والأعوام المقبلة، بما يعكس الجاذبية المتنامية للبيئة التعليمية العُمانية.
طموح عالمي
وتؤكد الباحثة العمانية الدكتورة بدرية النبهاني أن السلطنة تمتلك مقومات فريدة لتصبح مركزاً عالمياً للتعليم العالي.
وتضيف أن موقعها الجغرافي المتميز في قلب الشرق الأوسط، الذي يربطها بآسيا وأفريقيا وأوروبا، يسهّل استقطاب الطلاب من مختلف المناطق ويعزز إنشاء بنى تحتية لوجستية تعليمية.
وتشير النبهاني إلى أن الاستقرار السياسي والأمني في السلطنة يوفر بيئة تعليمية آمنة وموثوقة للطلاب الدوليين والمستثمرين.
كما أن السياسات الحكومية الداعمة للتعليم والتدويل ضمن "رؤية عُمان 2040" تهدف إلى جذب الطلاب وتخصيص ميزانيات كبيرة لتطوير المؤسسات البحثية والأكاديمية، بهدف تعزيز التنويع الاقتصادي.
وأوضحت أن الطابع الثقافي والحضاري الغني لسلطنة عُمان يوفر تجارب ثقافية فريدة للطلاب الدوليين، مما يعزز جاذبية البلاد كوجهة تعليمية وسياحية.
بالإضافة إلى ذلك، تسهم البنية التحتية الحديثة للجامعات ومراكز الأبحاث في تقديم تجربة تعليمية عالية الجودة، مما يجذب الطلاب الباحثين عن مستوى عالمي من التعليم.
ولتعزيز مكانتها تقترح النبهاني أن تركز عُمان على تقديم برامج تعليمية عالية الجودة ومعترف بها دولياً، خاصة في المجالات الحيوية كالطاقة المتجددة والتكنولوجيا والسياحة والبيئة.
وشددت على أهمية الاستثمار في التعليم الرقمي والذكاء الاصطناعي لتوفير خيارات تعليمية مرنة وعالية الجود،
مشددة على ضرورة تعزيز التعاون مع الجامعات العالمية الرائدة لتعزيز الاعتراف الدولي وتصنيفات الجامعات العُمانية من خلال اتفاقيات التبادل الأكاديمي والبحثي.
وفي سياق التحديات تشير النبهاني إلى أن السمعة العالمية للمؤسسات العُمانية لا تزال بحاجة إلى تعزيز، مما يستدعي استراتيجيات تسويقية عالمية.
كما أن نقص البرامج الأكاديمية الدولية المعترف بها على نطاق واسع، وضعف التفاعلات البحثية، والتحديات اللغوية، تتطلب استثمارات كبيرة في التحديث الأكاديمي وتطوير مراكز اللغات.
وتؤكد الباحثة أهمية التمويل المستمر والاستثمار طويل الأمد للحفاظ على الجودة وتطوير البنية التحتية.
وتوقعت النبهاني عوائد ثقافية وعلمية واقتصادية كبيرة من استقطاب الطلاب الدوليين، مضيفة: "ثقافياً، يسهم ذلك بتنوع التفاعلات الثقافية وتعزيز التسامح. علمياً، يزيد الإنتاج البحثي وتبادل الخبرات وتشجيع الابتكار. اقتصادياً، ينشط قطاعات السياحة والخدمات ويجذب الاستثمارات".
تصنيفات عالمية
يسلّط تقرير لمؤسسة (QS) البريطانية لتصنيف الجامعات، صدر في يونيو الماضي خلال فعالية بمسقط، الضوء على التحولات التي يشهدها قطاع التعليم العالي العُماني، ويبرز السلطنة كمركز دولي صاعد في مجالي التعليم والبحث العلمي.
وبحسب تقرير "الإمكانات المتقدمة للتعليم العالي في سلطنة عُمان"، سجّلت السلطنة نمواً ملحوظاً في الإنتاج البحثي بنسبة 36.9% خلال عام 2024 مقارنة بعام 2023، ما يعكس النشاط الأكاديمي المتزايد والتوجه نحو تعزيز بيئة الابتكار.
وفي تعليقها على التقرير أوضحت الدكتورة مريم بنت بلعرب النبهانية أن رؤية "عُمان 2040" تضع التعليم والبحث العلمي في قلب المشروع الوطني، بهدف بناء اقتصاد قائم على المعرفة، وتحقيق التنافسية والاستدامة.
وكشفت النبهانية في تصريحات خلال الفعالية عن أن الرؤية تستهدف إدراج 4 جامعات عُمانية ضمن أفضل 500 جامعة عالمياً في تصنيف "QS" بحلول عام 2040.
وقد شهد تصنيف "QS" العالمي لعام 2026 تطوراً لافتاً للجامعات العُمانية، إذ أدرجت 5 مؤسسات تعليمية مقارنة بجامعتين فقط في تصنيف العام السابق.
وحققت عدة جامعات عُمانية تقدماً لافتاً في التصنيف العالمي، حيث صعدت جامعة السلطان قابوس إلى المرتبة 334 عالمياً بعد أن كانت في المرتبة 362.
كما دخلت جامعة نزوى التصنيف للمرة الأولى ضمن الفئة (770–761)، وجاءت جامعة ظفار في الفئة (900–851)، والجامعة الألمانية للتكنولوجيا في الفئة (1200–1001)، وحققت جامعة صحار تقدماً ملحوظاً بانتقالها من الفئة (1200–1001) إلى (1000–951)
ونوّهت النبهانية بأن هذه النتائج تعكس التوجه الوطني نحو الارتقاء بجودة التعليم، وتعزيز مخرجات البحث العلمي، ومواءمة المعايير المؤسسية مع متطلبات التقييم العالمي، بما يشمل السمعة الأكاديمية، فرص التوظيف، التعاون الدولي، ونسبة الطلبة الدوليين.
وأكدت أن تقرير "QS" يُعد وثيقة مرجعية تعزز من الحضور الدولي للتعليم العالي العُماني، وتُسهم في تسويق المؤسسات التعليمية على مستوى العالم، تماشياً مع أهداف رؤية "عُمان 2040".
من جهته أشار عميد الكلية الحديثة للتجارة والعلوم، موسى بن عبد الله الكندي، إلى أهمية التقرير في توثيق واقع التعليم العالي وتطويره، معتبراً أن مشاركة الكلية في المشروع تنسجم مع رسالتها في دعم التميز الأكاديمي والبحثي.
وأضاف في تصريح نشرته صحيفة "أصداء" العُمانية، في 23 يونيو الجاري، أن تعزيز الشراكات الدولية يُعد ركيزة أساسية لتوسيع نطاق الحضور العُماني في التصنيفات الإقليمية والدولية، وتحقيق التميز المؤسسي.
في ظل هذا الحراك التعليمي المتسارع تواصل سلطنة عُمان ترسيخ مكانتها كمركز معرفي إقليمي ودولي، مستفيدة من رؤية استراتيجية تستثمر في العقول وتراهن على جودة التعليم والبحث العلمي كمدخل رئيسي للتنمية المستدامة.
وتعكس هذه المعطيات تحولاً حقيقياً في البنية التعليمية للدولة، واستعداداً لمنافسة عالمية متقدمة، وبهذا المسار، تمضي عُمان بثقة نحو تحقيق أهداف "رؤية 2040"، حيث المعرفة هي رأس المال الأهم في سباق المستقبل.