Logo

سباق الذكاء الاصطناعي: عالَم ينتقل من المشي إلى الركض

 يشهد العالم اليوم سباقاً نحو السيطرة على الذكاء الاصطناعي، حتى بات كثيرون يشبّهونه بسباق التسلّح النووي في منتصف القرن العشرين،

لكن مع اختلاف جوهري: السلاح الجديد هو الخوارزميات لا الذرّات. وبينما تتسارع شركات وادي السيليكون في الولايات المتحدة لبناء نماذج أكثر قوة، تتقدم الصين بخطى سريعة، دافعةً واشنطن إلى دق ناقوس الخطر بشأن مستقبل تفوقها التكنولوجي.

وفي الوقت الذي تتضخم فيه ميزانيات الاستثمار بمليارات الدولارات، تتنامى المخاوف من الكلفة البيئية، والتهديدات الأمنية، والآثار الاجتماعية العميقة لهذا السباق.

وادي السيليكون: مركز الصراع العالمي
تصف صحيفة ذا غارديان البريطانية، مشاهداتها في وادي السيليكيون على الشكل التالي: في ساعات الصباح الباكر، يتحول القطار الذي يخترق وادي السيليكون إلى ورشة عمل متنقلة. شباب ملتصقون بحواسيبهم المحمولة، ينفذون الأوامر البرمجية التي تتوالى عليهم: إصلاح ثغرة، كتابة سكريبت جديد، إنهاء مهمة.

هذه المشاهد اليومية أصبحت التعبير الأكثر وضوحاً عن السباق العالمي نحو تحقيق الذكاء الاصطناعي العام (AGI)، اللحظة التي تصبح فيها أنظمة الذكاء الاصطناعي تماثل الإنسان فكرياً أو تتجاوزه.
يتوزع هؤلاء العاملون بين مقارّ Google DeepMind في ماونتن فيو، وميتا في مينلو بارك، وأوبن إيه آي  وأنثروبيك في سان فرانسيسكو. وهي شركات أصبحت قيمتها المجمّعة تُقدّر بتريليونات الدولارات، وارتفعت فيها رواتب العاملين إلى مستويات تشبه أجور نجوم الرياضة. حتى إن مارك زوكربيرغ، مؤسس "ميتا" ، يعرض حزماً تصل إلى 200 مليون دولار لاستقطاب المواهب الهندسية.
من جهة أخرى، تواصل إنفيديا، المزود الرئيسي لرقائق الذكاء الاصطناعي، تعزيز مكانتها قوةً اقتصادية كبرى بعد تضاعف قيمتها ثلاثين مرة منذ عام 2020، فيما تبني الشركات الأميركية والصينية مراكز بيانات هائلة قد تمتد قريباً إلى الفضاء.

مراكز البيانات: قلب السباق ومحركه
لا يمكن فهم هذا السباق من دون التوقف عند مراكز البيانات، التي أصبحت مصانع الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي. في سانتا كلارا، داخل منشأة Digital Realty، يمكن سماع أصوات المعالجات عالية القدرة، بصوت يصل إلى 120 ديسيبل، حتى يبدو وقوف المهندسين إلى جوارها مثل الوقوف قرب محرك طائرة نفاثة.

هذه المراكز تستهلك طاقة تعادل عشرات المنازل لكل غرفة ممتلئة بالمعالجات. وتشهد الولايات المتحدة والصين والهند وأوروبا سباقاً لبناء مراكز أكبر وأكثر قدرة، مع مشاريع هائلة مثل منشأة ميتا في لويزيانا التي تغطي مساحة تقارب مساحة مانهاتن، ومركز غوغل قيد التخطيط في الهند بقيمة 6 مليارات دولار.

وتشير تقديرات غولدمان ساكس إلى أن الخادم الواحد في 2027 قد يضم 576 وحدة معالجة رسوميات ويستهلك 600 كيلوواط من الطاقة، ما يكفي لتزويد 500 منزل أميركي بالكهرباء.

لكن هذا التوسع يأتي بكلفة اجتماعية. فقد ارتفعت أسعار الكهرباء بالجملة بنسبة تصل إلى 267% في بعض المناطق الأميركية، حتى لدى العملاء البعيدين عن مراكز البيانات، لأن الجميع يتشارك الشبكات نفسها.

التهديدات البيئية والأمنية

لا تقتصر المخاوف على الكهرباء فحسب. فبحلول 2030-2035 قد تمثل مراكز البيانات 20% من استهلاك الكهرباء العالمي، بحسب تقديرات معهد الطاقة والبيئة في جامعة بنسلفانيا.

 ويمتد استهلاك الطاقة إلى كل تطبيقات الذكاء الاصطناعي: من الدردشة اليومية (الأسئلة والإجابات)، إلى الفيديوهات التوليدية، والروبوتات، والبحث المعزز، والسيارات ذاتية القيادة.
 
ويزداد القلق كلما اقتربت النماذج من قدرات الذكاء الاصطناعي العام. فقد شهدت أوبن إيه آي مثلاً دعاوى قضائية بعد اتهام "تشات جي بي تي" بأنه شجع مراهقاً على الانتحار. كما رصدت اختبارات عدة حالات مقاومة للنماذج تجاه الأوامر التي تهدف إلى إيقافها.
 
الذكاء الاصطناعي: نماذج ضخمة

ببساطة فإن السباق بين الشركات الأميركية الكبرى يتصاعد، ولا يبدو أنه سيتوقف قريباً ويمكن اختصار الصورة الحالية على الشكل التالي:

 تتوقع أنثوربيك الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام بحلول 2026 أو 2027.

 يرى سام ألتمان، رئيس أوبن إيه آي، أن التقدم سريع لدرجة أنه قد يتمكن من بناء نموذج يستبدله في منصبه.

تصدرت Google DeepMind المشهد بالتوازن بين الابتكار والسلامة، لكنها تحذر من مخاطر التلاعب وتغيير السلوكيات على نطاق واسع.

وتتعقد الصورة أكثر بعدما كشفت غوغل عن مشكلة جديدة: انتشار مشاريع قوانين خاصة بالذكاء الاصطناعي في أكثر من ألف تشريع محلي في الولايات الأميركية، ما قد يضعف القدرة على الابتكار ويمنح الصين ميزة تنافسية.

تنقل قناة abc الأسترالية عن ساندر بيتشاي، الرئيس التنفيذي لـ"غوغل": "كيف يمكن التعامل مع كل هذه القوانين المتباينة، وكيف يمكن منافسة دول مثل الصين التي تتحرك بسرعة؟ علينا إيجاد التوازن الصحيح". 

ويؤكد أن وضع المعايير يجب أن يكون على المستوى الوطني وليس عبر قوانين متنافرة من ولاية إلى أخرى.

تحذيرات بيتشاي تأتي في لحظة تشهد فيها الصين استثماراً هائلاً في الذكاء الاصطناعي، وسط مخاوف أميركية متصاعدة بعدما أثبت نموذج ديبسيك الصيني إمكانية تطوير نموذج منافس بكلفة أقل وقدرة حوسبة أقل.

ويرى خبراء أن السباق يشبه سباق التسلح النووي، لكن مع اختلاف واحد: من يمتلك الذكاء الاصطناعي الفائق (ASI) أولاً سيحسم ميزان القوة العالمي، وربما لعقود.

بينما يتنامى السباق، لا تزال الولايات المتحدة تفتقر إلى تشريع وطني شامل للذكاء الاصطناعي. وتتبنى إدارة ترامب نهجاً متساهلاً، فيما تتخوف شركات مثل غوغل من أن يؤدي التشريع المحلي المتشعب إلى إعاقة الابتكار الأميركي.

وفي الوقت نفسه، يدعو الباحثون والمنظمات الدولية إلى وضع "خطوط حمراء عالمية" لمنع "المخاطر غير المقبولة" بحلول 2026.

جيل شاب يقود أخطر سباق تكنولوجي في التاريخ

يتصدر المشهد جيل من الباحثين في العقدين الثالث والرابع من عمرهم، بينهم فريق شاب في ميتا يقوده ألكساندر وانغ (28 عاماً)، وإيسا فولفورد في أبون إيه آي (26 عاماً). 

ويعمل هؤلاء على نماذج قادرة على اتخاذ القرارات، وتحديد المخاطر، وتنفيذ مهام معقدة دون تدخل بشري.

لكن هذا الشباب، رغم عبقريته، يفتقر إلى الخبرة السياسية والتنظيمية التي تحتاجها مواجهة سباق ذي مخاطر وجودية. وتقول شخصية سياسية عملت في إدارة أوباما لصحيفة ذا غارديان: "قلة خبرتهم الحياتية تساهم في تفكير ضيق ومدمّر أحياناً".

إلى جانب ذلك تطرح علامات استفهام حول ضغوط العمل وارتفاع المنافسة وأثر ذلك على العاملين الشباب، خصوصاً أن القطاع نفسه يتطور بسرعة قياسية. إذ أطلقت أوبن إيه آي قبل أيام، خاصية الدفع الفوري داخل ChatGPT، 

بينما كشفت أنثروبيك عن نموذج يكتب البرمجيات ذاتياً لمدة 30 ساعة، وطرحت ميتا أداة جديدة لبث الفيديوهات التوليدية.

ويقول أحد العاملين في "تشات جي بي تي" لـ"ذا غارديان": "لأول مرة في حياتي التقنية، لا نعرف تماماً ماذا يبني المهندسون. يجب أن نخرج ونتحدث مع الناس لفهم قدرات النظام".