مهرجان السينما الأوروبية يواصل مواعيده: نابولي الزمن الضائع... ورومانيا الهويات القاتلة
لا يزال «مهرجان السينما الأوروبية» بدورته الـ28 التي تُختتم غداً الأربعاء، عامراً بالأفلام والمواعيد المهمّة. منذ السادس والعشرين من أيلول (سبتمبر)، كان اللبنانيون على موعد مع أحدث الإنتاجات الأوروبية التي برزت في السنتين الأخيرتين. من بين كل هذه الأعمال، فيلمان لا تفوّتوهما حظيا بحفاوة نقدية في أوروبا السنة الفائتة: الأول من إيطاليا بعنوان «نوستالجيا» (س:19:30 مساء اليوم ـــــ حديقة السفارة الإيطالية/ بعبدا) للمخرج ماريو مارتوني، والثاني من رومانيا بعنوان «R.M.N» (س: 20:00 مساء اليوم ـــ غالاكسي غراند سينما/ الشيّاح) للمخرج كريستيان مونغيو، أحد أعمدة الموجة الرومانية الجديدة.
«نوستالجيا» ماريو مارتوني
«نوستالجيا» لماريو مارتوني (1959)، هو سرد للألم الناتج عن التوقف عن حبّ شخص أو شيء ما: أم، رفيق، مدينة، بلد، أو الذات. وفي الوقت نفسه، هو فيلم عن الحبّ، ليس لامرأة، بل لتاريخ مدينة، لسنوات شبابها. استناداً إلى رواية بالعنوان نفسه للكاتب إيرمانو ريا (1927 – 2016)، صنع مارتوني فيلماً أنيقاً عن الحنين. قصة الابن الضال الذي عاد إلى بيته، للعثور ربما على نفسه، وماضيه ومصيره. الشباب المتهوّر، الذي عاشه فيليس (بييرفرانشيسكو فافينو)، في ريوني سانيتا، في نابولي، دفع والدته تيريزا (أورورا كواتروشي) إلى حد الجنون. المشكلات الصغيرة والكبيرة التي تسبّب فيها مع صديقه أوريستي (توماسو راغنو)، جعلته يهرب خائفاً من نابولي وإيطاليا ووالدته، لبدء حياة جديدة في مكان آخر. بعد أربعين عاماً من العيش في الخارج، وتحديداً في القاهرة، حيث تزوج واعتنق الإسلام وأصبح رجل أعمال ثرياً، يعود فيليس إلى نابولي، وإلى ريوني سانيتا، ليعانق والدته مرة أخرى. ما يجده، وما لا يجده في عودته كأجنبي، هو على وجه التحديد الحنين إلى ما كان، وما يمكن أن يكونه، والرغبة في إعادة العلاقة مع ذاك المكان، وتلك الشخصيات، والتسامح مع ماضيه. لكن الأمر لن يكون سهلاً،
فأوريستي أصبح زعيماً شرساً للكامورا (إحدى عائلات المافيا الإيطالية الأشهر في الثقافة الشعبية والعالمية، متجذّرة في أوساط الشعب وخصوصاً الأكثر فقراً، وتعتبر من أقدم المنظمات الإجرامية في إيطاليا)، وبعث له رسالة واضحة جداً: هو شخص غير مرغوب فيه. يعزز فيليس علاقته مع الأب لويجي (فرانشيسكو دي ليفا)، الذي يحاول إنقاذ أطفال الحي من مصيرهم الرهيب الذي يحيط بهم، بينما يحاول هو إنقاذ مدينته كلها ومعها صديقه.
يبدأ الفيلم مثل فيليس، مرتبكاً ومخيفاً، وكذلك نحن. ثم يكشف نفسه ببطء أمام أعيننا، مُظهراً كل تعقيداته. قصة «نوستالجيا» آسرة، محيرة مثل الارتباك الجسدي والعاطفي الذي يحيط ببطلها. وفي عودته إلى رحم سراديب الموتى الكبير النابوليتاني، يتعلم فيليس كيفية بناء خريطة لنفسه وللعالم، يستعيد لغته ولكنته، وأيضاً أجزاء فقدها وأنكرها، لم تتحلل أبداً، بل دفنها غبار الزمن.
«نوستالجيا» لماريو مارتوني
لن نحتاج إلى قراءة الرواية لفهم خاتمة قصة فيليس مسبقاً. لكن معرفتها، أو افتراضها، لا يغيّران من المشاركة العاطفية التي يعطينا إياها الفيلم أثناء التحديق في الشاشة. «نوستالجيا» يستفيد جداً من التصوير الدقيق الذي يقدمه لنابولي، المدينة التي قضى فيها مارتوني حياته المهنية بأكملها. دراما كلاسيكية، تقريباً من عصر آخر، مبنية على الصبر والرقة، باستثناء بعض المشاهد المحددة التي يبدو أن مارتوني لم يجد فيها النغمة الصحيحة. تعتبر علاقة فيليس بوالدته في البداية، من بين أفضل ما في الفيلم. تظهر بحنان قوة الارتباط بينهما رغم مرور الوقت الذي لم يريا فيه بعضهما. والأمر نفسه يحدث مع الحي الشعبي الذي تدور أحداث القصة فيه. هو متاهة من الأروقة التي تُظهر المودة والحنين، أكثر من بؤسها الواضح. بعد وضوح الأحداث كلها، يصبح «نوستالجيا» قصة نثرية بقدر ما هي أكاديمية، داخل فيلم يحتوي على ومضات يجعلنا مهتمين جداً بما يحدث على الرغم من وجود فواصل سردية غالباً ما تكون مسطحة ومتكررة وبدون لدغة.
R.M.N كريستيان مونغيو
منذ بدايته العظيمة في فيلم «4 أشهر، 3 أسابيع، ويومان» (2007)، حوّل كريستان موغيو فيلموغرافيّته إلى صورة مغناطيسية صارمة ودقيقة للتوترات الاجتماعية والسياسية في ماضي رومانيا وحاضرها القريب. فيلمه الجديد «R.M.N» صورة دقيقة أخرى لحالة بلاده المتعدد الأعراق، مغلف بمظهر شاعري. عشية عيد الميلاد، حوّل موغنيو ترانسلفانيا إلى عالم مصغّر يلخص المجتمع الأوروبي وكراهيته للأجانب وتحيزه الجنسي، وشكوكه المستقبلية والمخاوف الرجعية التي تطارده. مع هذا الإتقان في تنسيق التطورات الاجتماعية التي ميزت صانعي أفلام الموجة الرومانية الجديدة، يضع مونغيو على الطاولة تراكم العوامل التي تغذي انفجار كراهية الأجانب التي أشعلها وصول ثلاثة عمال مهاجرين. يتعمّق «R.M.N» في إنثوغرافيا المجتمع الروماني، يظهر أضواءه وظلاله، والمكانة التي يحتلها حالياً في أوروبا.
تحدّد المنطقة التي تجري فيها أحداث الفيلم، نغمة القصة التي تهدف، على وجه التحديد، إلى التقاط الواقع غير المحفّز للمكان نفسه. نحن في ترانسلفانيا، منطقة تاريخية في وسط شمال غرب رومانيا، حيث يتعايش السكان الأصليون، مع المواطنين المجريين والألمان والفرنسيين... حتى وصول وفد السريلانكيين أخيراً. هنا، الجبال مقطوعة بشكل فظ، مكشوفة كأكوام من المدرجات الهرمية غير المستقرة، والطين يبتلع إسفلت الشوارع بشكل دوري، والغابات التي غذّت كوابيس طفولتنا، هي المخبأ الغادر للوحوش الضارية. هنا أيضاً، السماء الملبّدة بالغيوم، ترفض التفاوض مع أي لون غير اللون الرمادي. الرحلة الاستكشافية اللونية الوحيدة التي يسمح بها الفيلم هي ألوان الترجمة التي تحاول لوحتها المتغيرة إعادة النظام إلى مزيج اللغات التي تشكل هذه المنطقة.
كل هذا ينفجر في عاصفة اجتماعية ترفع من شأن مونغيو مرة أخرى كمخرج موهوب. إن شعب رومانيا التي أُفرغت ساحاته، وسئم الإحباط والتوترات المتولدة داخله، جمع كل سكانه عملياً لكي يقرروا، بطريقة ديمقراطية، كيف سيتمكنون من حلّ هذا القدر الهائل من الاضطرابات. يقود الفيلم، مشهد تجمّع المواطنين الذي يصوّر من خلال الأصوات المتنوعة، المسافة بين أوروبا الحقيقية والمعايير التي تتطلّبها مؤسساتها. نلاحظ في لقطة ثابتة لمدة خمس عشرة دقيقة تقريباً (قطعة رومانية ثابتة وهائلة!)، نوعاً من التجربة السياسية التي تكون فيها جميع الاستنتاجات بمثابة ضربة قوية على الرأس. يظهر الوحش الاجتماعي كل ما لديه من تعصّب، ويظهر الافتقار إلى التضامن بين الشعوب المشتتة، وخصوصاً عندما تلعب على أرضها. كاميرا مونغيو، تلتقط ــ من دون أن تتحرّك سنتيمتراً واحداً ــــ كل الإيماءات وتصريحات أولئك الذين يتحدثون عن أنفسهم، الذين لا يستطيعون وضع المكياج والأقنعة.
في كل عام، نشاهد الكثير من الأفلام، وقلّة منها تترك المرء متأثراً كما هي الحال في «R.M.N». يمكن أن نقول إن هذا الفيلم يعكس بشكل أفضل المشكلات الأثنوغرافيّة التي يطرحها النموذج الأوروبي الحالي، في ما يتعلق بالدول التابعة للاتحاد السوفياتي سابقاً. لا يعني ذلك أنّ مونغيو ينوي بيعنا خطاباً غربياً، فهو أكثر فضيلة للتعامل مع موضوع مماثل بهذه البساطة. ما يفعله هو تمرين بارع، يقارن بين الأضواء والظلال التي تصطدم بين الرؤية الأكثر غربية لأوروبا والجزء الأكثر ارتباطاً بالتراث السوفياتي. يصور الفيلم ببراعة هائلة كراهية المثلية الجنسية وكراهية الأجانب الكامنة في أوروبا في القرن الحادي والعشرين كما هي الحال في دول مثل رومانيا.
يتحكّم مونغيو بكل شيء، يعرف كيف يقدم في كل لحظة ما تحتاجه الحبكة، ويشرك المشاهد في دوامة من العاطفة والمأساة غير المسبوقة. في الثلث الأخير من الفيلم، يتبنّى نغمة أخرى تتماشى مع ما رأيناه مسبقاً، ويغمرنا أكثر في وجودية الفيلم. يشق الحزن وانعدام الأمن والعنف البشري طريقها إلى نهاية مهيبة، حيث يتمكن المخرج من تفجير الفيلم، وتحطيمه في دماغ المشاهد من دون سابق إنذار. إنها سينما خالصة وأحد تلك الأفلام التي تذكرك بسبب حبّنا لهذا الفن كثيراً.
شفيق طبارة