الدراما الرمضانية بين الاقتباس والالتباس!

 كلما أطلّ شهر رمضان المبارك أطلّت معه الأعمال الدرامية التلفزيونية. وبفعل كثرة منصات البث الحديثة، ووجود مئات القنوات الفضائية، فإن وتيرة الإنتاج الدرامي تنمو وتتسارع، وهذا أمر إيجابي يصبّ في مصلحة العاملين في هذه الصناعة، ولا سيما لجهة توفير المزيد من فرص العمل في ظل واقع اقتصادي واجتماعي متردٍ في معظم البلدان العربية مشرقاً ومغرباً.

رغم أن شهر الصيام يأتي هذا العام مسبوقاً بالحزن والغضب بفعل جريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في غزة، لكننا نصفّق لكثرة الإنتاج التلفزيوني، وتزايد فرص العمل، لكن ما ينغّص علينا هو غلبة الكمّ على النوع، وندرة الأعمال التي ترتقي بسوية العروض الدرامية، وتخاطب عقل المشاهد، عِوَض الاكتفاء بمخاطبة غرائزه، وتعمل على تثقيفه بدل الاكتفاء بتسليته. أضف إلى ذلك تكرار الموضوعات المتمحورة حول قصص الغرام والانتقام وعصابات المخدرات وجرائم القتل واللصوص وقطّاع الطرق وما شابه، وتحاشي تناول قضايا أخرى تحمل أفكاراً مبتكرة تضخّ دماءً جديدة في عروق الدراما الرمضانية وغير الرمضانية.

طبعاً، لكل قاعدة استثناء. هناك بعض الأعمال المتميزة التي تتناول قضايا اجتماعية هامة. لكن، ما نطمح إليه، هو أن يصير الاستثناء هو القاعدة بحيث تصبح غالبية الأعمال متميزة تناقش موضوعات من صلب واقعنا، بدل الاعتماد شبه الكلّي على الأعمال المستوردة والاقتباس.

هنا، نسارع إلى القول ليس الاقتباس عيباً ولا آفة، على العكس هو علامة صحية وشكل من أشكال التفاعل بين الثقافات المختلفة، ونوع من التلاقح الأدبي والفني، فما أجمل النص الإبداعي الذي يحرّض ويحفّز على كتابة ما يوازيه أو يضاهيه إبداعاً، فالتناص مُولّدٌ لأفكارٍ يتناسل بعضها من البعض الآخر. لكن التناص شيء، والنسخ أو الاستنساخ شيء آخر مختلف تماماً، الأول محمود والثاني مذموم.

طبعاً، الموضوعات تتشابه بين مجتمع وآخر، خصوصاً في زمنٍ باتت فيه الأرض "قرية كونية"، لكن علينا أن نعبّر عن أنفسنا بطريقتنا وبأساليب تحاكي وتحكي عن أنماط عيشنا وما يطرأ عليها من تحولات ومستجدات ومتغيرات. على سبيل المثال: ساعي البريد الذي كانت تُنسَج حوله الحكايات الرومانسية، و"المكتوب" (الرسالة) الذي كان العشّاق ينتظرونه بفارغ الصبر، وكُتِبَت من وحيه أغنيات وقُدِّمت عنه أفلام (مَن ينسى الفيلم الرائع "أل بوستينو")، لم يعد له وجود، حلّ محله البريد الإلكتروني والواتس آپ والسناب شات ووسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة، وجُلُّها أمور مستجدة في العقدين الأخيرين، وأثرها عميق وكبير في مختلف مناحي الحياة، وتالياً في الآداب والفنون المُعبِّرة بشكل أو بآخر عن هذه الحياة.

هل نأمل أن نشاهد يوماً عملاً يطرح (مثلاً) ما صنعته بنا وسائل التواصل الاجتماعي، وما فرضته من متغيرات على العلاقات الإنسانية، أو نشاهد عملاً يتناول أثر الحروب والأزمات التي عصفت بنا مشرقاً ومغرباً، أو قضايا مثل التهجير والهجرة والبطالة والأمية وسواها من مشكلات وآفات، وذلك ضمن قوالب درامية شيقة وجذابة.

نعود إلى الاقتباس الذي يظل ضرورياً ومطلوباً لأن تلاقح الثقافات أمر لا بد منه، فلولا الترجمات مثلاً لما تعرفنا على كثير من علوم الأولين وفلسفاتهم وفنونهم وآدابهم، لكن ما يثير فينا التساؤلات هو المبالغة في أمرٍ ما من دون مبرر أو مسوّغ، وهذا ما نلاحظه في الأعمال الدرامية الرمضانية كل عام، إذ لا ضرورة لاقتباس بعض الأفلام وتحويلها إلى مسلسلات مملة من ثلاثين حلقة متتالية، خصوصاً وأن الاقتباس في مثل هذه الحالة يفرض مطّاً وتطويلاً غايتهما الوحيدة ملء الفراغ، إذ من غير المنطقي ولا الطبيعي أن تتمدد أحداث فيلم مدته ساعة ونصف الساعة على مدى 30 ساعة. 

نعرف أننا لسنا الوحيدين الذين نعمد إلى مثل هذا، لكنّ للاقتباس الناجح شروطاً أولها أن يكون ذكياً وحرفياً، ويبتكر أحداثاً مترابطة مشوقة منسجمة مع الخط الرئيسي للعمل، عِوَضَ التكرار والتطويل المجاني المُنَّفِر للمشاهد المُتاح له خيارات لا عدّ لها ولا حصر، وفي إمكانه بكبسة زر الانتقال إلى مشاهدة شيء آخر.

السؤال المحير الذي نطرحه على المنتجين: هل خلت الساح من نصوص وروايات عربية جديرة بتحويلها أعمالاً درامية؟ بل لعل الصيغة الأنسب للسؤال هي: أصلاً، هل يقرأ المنتجون (ولا نعمم إذ دوماً ثمة استثناءات) تلك الروايات؟ وبينها أعمال ذائعة الصيت وحائزة جوائز أدبية رفيعة؟ ألا يعرفون أن أوج الدراما والسينما في مصر قام على روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وبهاء طاهر وسواهم من كبار الكّتاب؟

نكرر، لسنا ضد الاقتباس بالمطلق، لكننا نحثُّ المنتجين على عدم الاتكال أو الاتكاء فقط على الاقتباس تارةً أو الدبلجة طوراً، بل الالتفات إلى إبداعات الكتّاب والروائيين العرب وهي كثيرة وساحرة، وفيها الكثير مما يصلح ويستحق أن نشاهده على الشاشة. فهل مِن منتجٍ صاحب هَمٍّ، ذوّاقة، متنور، مثقف، أو قارئ على الأقل...وهذا أضعف الإيمان!

هل نأمل أن نخرج يوماً من دائرة الاقتباس والالتباس ونشاهد، بدل الأعمال المستنسخة من المسلسلات التركية التي بات المشاهد قادراً على متابعتها بنسختها الأصلية، عروضاً بمستوى "التغريبة الفلسطينية"، "الاجتياح"، "إخوة التراب"، "نهاية رجل شجاع"، "ليالي الحلمية"، "زيزينيا" وسواها من عناوين رسخت في ذاكرة مشاهديها، وبرهنت أن الأعمال الجادة والعميقة هي الأنجح والأرقى والأبقى. 

نأمل ونحن ندرك أن مثل هذا الأمل لا يتحقق إلا بإرادة متمكنة ومدركة لأهمية الدراما التلفزيونية وأثرها في حياة الناس لا فقط خلال الشهر الفضيل، بل كل شهر، وكل حين!

* زاهي وهبي - شاعر وإعلامي لبناني.