خطوة سوريّة مبشّرة على طريق الدراما القصيرة: «مغتربون»... هذا مسلسل واقعيّ!

 تقف الكثير من المحطّات التلفزيونيّة وشركات الإنتاج العربيّة، موقف الحياد ممّا يحدث في عالمنا العربي، كأنّ القائمين على تلك المحطّات والشركات لا يريدون للدراما التي ينتجونها أن تشتبك مع الظرف الراهن، 

ويسعون إلى طرح سيناريوات سطحيّة تهتم بقصص رجال المال والسيّارات الفاخرة، وقوام الممثلات الجميلات.تتجسّد هذه النظريّة في الدراما المعرّبة التي تكتسح الفضائيّات هذه الأيّام وتحقق نسبة مشاهدة عالية.

 لكن يبقى هناك من يتبنّى فكرة أفول التلفزيون بشكله التقليدي، لمصلحة اليوتيوب والتلفزيون الرقمي. 

هذا الفضاء صار معروفاً بتقديمه محتوى ذا ميزانيّة أقل وهوامش حريّة أوسع، واحتمالات مفتوحة تتيح إمكانات أكبر للتجريب وخوض المغامرات، في حال وجدَت النيّة لدى صانع العمل بذلك. 

وقد سَبق لبعض التجارب السوريّة أن رأت النور في هذا الإطار، لكنّ معظمها كان متواضعاً جداً، لناحية المساحة الإبداعيّة، والإمكانات التي شاركت في خلقها، فلم تحقق تلك التجارب الحد الأدنى من النتائج المرجوّة. 

أمّا مع نضوج الخبرات وفهم عالم الإنترنت أكثر اليوم،

 فقد بدأت منصة 1+1 Show بتحقيق حضور واضح، وخصوصاً لدى النخبة السوريّة، كمنصّة مستقلة تحاول تقديم محتوى معرفي وترفيهي عبر تجربة إعلاميّة مواكبة، لا تنخرط في السابق المحموم وراء الترند، أو تنحدر نحو تقديم المحتوى المبتذل بقصد تسوّل المشاهدات والأرباح، إنما برغبة في صناعة محتوى جذّاب وعميق.
 
قدّمت المنصّة السورية التي يديرها الكاتب رامي عمران من كندا، أكثر من تجربة لافتة، من بينها مسلسل «كنبة أورانج» (راجع المقال أدناه) الذي كتب فكرته يزن أتاسي وأخرجه ورد حيدر،

 وبودكاست «بيناتنا» للصحافي والكاتب يعرب العيسى، فيما تتمثّل التجربة الألمع في الفترة الماضية في مسلسل «مغتربون» الذي يحمل توقيع نجيب نصير ورامي عمران كتابةً، وعمار العاني إخراجاً، 

فيما يلعب أدوار بطولته أيمن عبد السلام ولجين إسماعيل وريام كفارنة وسهير صالح.

يقدّم العمل جردة حساب مكثّفة لكلّ المفاهيم المترديّة التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم، من دون أن تتغير هذه المفاهيم بذريعة الحرب، إنما اتخذت أشكالاً أكثر خطورةً. 

ويقرر إثارة النقاش في هذه المعطيات المجتمعية السائدة بعد اشتعال الحرب وعلى خلفية موجة النزوح، إذ يبدأ العمل بلازمة على صوت واحدة من بطلاته وهي تقول «عدد النازحين السوريين في الداخل والخارج يقدّر بـ 13 مليوناً... هذه ملفّات ثلاثة منهم».

 ترتبط الملفات الثلاثة بشاب وزوجته يضطران إلى اللجوء إلى بيت شقيقها بعد أن تتعرض منطقتهما للقصف، لتبدأ النزاعات والنقاشات الحامية منذ الليلة الأولى، وتكشف عن الانقسام الحاد في الرأي، ثمّ تتدحرج المواضيع إلى تنوّع وتباين كبير. 

وتحكي بجرأة واشتباك صريحين في مواضيع حساسة مثل الزواج المدني، والمشاهد الساخنة في الدراما، وتعنيف المرأة، وفكرة العار في المجتمع، والرشوة والحالة التجميليّة لأي خطأ بابتكار مسميّات تنضوي على مبررات للفعل الخاطئ، 

وتجد لها مسوّغات ومنطقاً يجعل صاحبه متصالحاً معه. 

ثم يفضي العمل في حلقاته القصيرة التي لا تتجاوز مدّة كل واحدة خمس دقائق، إلى أنّ المجتمع يعيش حالة تواطؤ فعلي مع كلّ تلك الحالات الاجتماعيّة السائدة، ويقترح تتمّة دراميّة مبنيّة على أنّ الشخصيّات تلك وصلت إلى أوروبا بعد رحلة لجوء، وبدأت تخضع لجلسات نقاش بغية منحها حق اللجوء في البلاد التي وصلت إليها، ومدى التناقض الصارخ الذي تعيشه تلك الشخصيّات.
 
يلتقط المسلسل القصير قضايا تستحق النقاش، وخصوصاً فكرة الجرأة في الدراما والحكم على مستوى هذه الدراما سواء رصينة أم منحدرة، والسويّة التي قدّمت فيها أعمال الجيل الذهبي للغناء العربي، وما تقترحه كلمات بعض تلك الأغاني. 

كذلك يتوقف عند جدلية أزلية حول المدى المتاح للمرأة في مجتمعنا بالاختيار. كل ذلك يقدّم بالحد الإنتاجي الأدنى الذي لا يحتمل ولا يتطلب أكثر من مكان تصوير واحد وبضع شخصيّات يكون الحوار بينهما هو البطل الغالب مع قدرة الممثلين السوريين الشباب على تحقيق التبنّي المطلوب والإقناع الوافي لخلق قيمة مضافة على مستوى الجاذبية التي يحققها العمل.

يعد هذا المسلسل بمثابة خطوة واعدة تشي بإمكانيّة فهم السوريين للعبة الدراما القصيرة، وإعادة تدوير واقعهم الغني وقصصهم الوافرة التي يمكن أن تكون مولّداً خطيراً لدراما واقعية ملهمة يمكن أن توثّق ولو حكائياً مرحلةً مهمّةً، أو تنوّه بها عبر الدراما.

* «مغتربون» على 1+1 Show

* وسام كنعان