الموسيقى الجديدة... بساط يوغا وسدّادة أذن
الموسيقى الجديدة (Neue Musik) كما توحي التسمية هي موسيقى الوقت الراهن. يسعى مؤلفوها ومؤدّوها إلى القطع مع الماضي والتوجّه بالأسماع إلى المستقبل، وذلك باتّباعهم مناهج عصرهم الفكرية واستخدامهم وسائله التكنولوجيّة.
وإن التسمية تبقى بمثابة مظلة اصطلاحية، تنضوي تحتها تيارات عدة، ما انفكت تنشأ من نظريات واختبارات وابتكارات، ما يجمعها هو الخروج عن السائد المألوف نسبةً إلى الذائقة العامة؛ وبموجب التقادم يمكن لها أن تتمأسس وتمسي موروثاً وتقليداً.
لذا، فالموسيقى الجديدة المعروفة بالسلسليّة (Serialism) التي انتهجت سلاسلَ نغميةً عوضاً عن سلالم موسيقية، ومن روّادها الألماني أرنولد شونبرغ والنمساوي أنطون فيبرن خلال فترة ما بين الحربين العالميّتين، لم تعد اليوم جديدة، وإنما حقبة متأخرة من الموسيقى الكلاسيكية الغربية، عادةً ما يشار إليها باسم "الحداثة".
كذلك هي التجارب المتقدّمة عقدَ الخمسينيات الماضي في ميدان "الإلكترو- أكوستيّات" (Electro-acoustic)، أي إنتاج الموسيقي بمزج الصوتين الطبيعي والصناعي المولّد كهربائياً، كالتي أجراها الفرنسي كارل هاينز شيفر والإيطالي لوتشيانو بيريو، وإن دُعي روّادها بالطليعيين وموسيقاهم بالجديدة، هي اليوم بمثابة أرشيفٍ سمعيّ، يوثّق جهدَ الأوّلين.
تتنافس العواصم الكبرى، التي تُقدّمها مؤسساتها حواضرَ كوزموبوليتيّة وبواتق صهر ثقافات ومدارس فنية تحرص على أن تواكب كل جديد، على احتضان مهرجانات تُقدّم الموسيقى الجديدة المعاصرة، ولا سيما الإلكترونية منها. على رأس تلك الحواضر العاصمة الألمانية، التي شهدت أوّلَ القرن العشرين أكثر الإبداعات الموسيقية جدّة وأشدّها راديكاليّة.
أسوةً بسابق عهدها، يُعتبر اليوم مهرجان "موسيقى مارس" (MaerzMusik) الذي تُشرف عليه هيئة مهرجانات برلين الفنية من أكبر تظاهرات الموسيقى الجديدة وأهمها في أوروبا والعالم.
بارتياد آخر دورة من عروضه الحيّة المتنوعة الممتدة على أسبوعين، تمكن ملاحظة معلمين بحسب الراهن على مسار القرن الماضي ثم الحالي. الأول، هو المغالاة في المقاربة التجريدية للصوت، أي النظر إليه بوصفه حدثاً فيزيائياً، وليس وسيطاً تعبيرياً. أما الثاني فلعله ناجم عن الأول، تمثّل في
غياب حضور المستمع عن حساب كلّ من المؤلف والمؤدي، أو انحسار هذا الحضور إلى حد أدى إلى اغتراب الجمهور.
لم يأت نهج التعامل مع الصوت محضَ ظاهرة فيزيائية من دون مقدمات تاريخية، وإنما نتيجة تطوّرٍ، يمكن إرجاعه نظريّاً إلى أثر المعرفيّة الغربية (Epistemology) منذ عصر النهضة ومن ثم عصر التنوير، القائمة أساساً على المادية العلمية، أو كما يدعوها اليوم الفيلسوف، إيان مغيل كريست: "الحضارة القائمة بالفصّ الأيسر"، في إشارة إلى قسم الدماغ المسؤول عن المنطق والحساب لدى البشر، بينما يضطلع الفص الأيمن بالحدس والعاطفة.
مع ذلك، لطالما وصلت الموسيقى الغربية وجدان المؤلّف بوجدان المستمع عبر الأذن بوصفها سمّاعةً للروح، فبلغ الوصل ذروته خلال الحقبة الرومانسية في القرن التاسع عشر؛ ولئن ظل الإبداع الموسيقي على الدوام في جزءٍ منه بحثاً في علم الصوتيّات وحساباً رياضياً للأبعاد بين النغمات وهندسةً لتصميم إمكانات الآلات وتحسينها وتوسيعها منذ العصور القديمة والوسطى، سواء لدى الفراعنة والإغريق أو الرومان والمسلمين، بقيت غاية البحث الارتقاء بالسماع بوصفه وسيطاً تعبيريّاً ماوراء - فيزيائيّاً، غايته الأسمى تلبية حاجةٍ إنسانيةٍ جماليةٍ وروحيّة.
خذ مثلاً الأداء المعنون "بلا رئة" (Lungless) الذي قدّمه خلال سابع أيام المهرجان الفنان اللبناني متعدد المنهجيات والمقيم في برلين، مازن كرباج، في "قاعة القبة" شمال غرب المدينة. لأجله، صُمّمت آلة موسيقية إلكترو-أكوستية خاصة، تتألف من أبواقٍ تزعق بفعل ضغط الهواء، تتحكم فيها منصّة كهربائية لتدوير المنمّطات (Modulators) أطلق عليها، ربما من باب السخرية السياسية، "أورغن بوتين" (Putin-Organ) توسّطت القاعة، لتبدو كما لو أن نَصبَها بذاته بمثابة عملٍ فنيٍّ تشكيليٍّ مفاهيميّ (Installation).
موضوع الأداء بحسب مُبدعه، تمثيلٌ صوتيٌّ لانحباس الرئة وانعدام القدرة على التنفس، وإسقاط تجربة الاستماع إلى زعيقٍ يصمّ الآذان على استعادة ذاكرة الطفولة لديه بما تحمله من رضوض الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990). على الرغم من تذيّل كُتيّب الحفل، لإخلاء المسؤولية القانونية، إشارة مقتضبة بخطٍّ رفيع، بوجوب أخذ الحيطة حيال ارتفاع شدّة الصوت خلال العرض والتوجه إلى المنظمين لأجل الحصول على سدّادات وقاية للأذن، لكن الشدّة بلغت حداً، جعلت عدداً من الحاضرين يهرعون إلى ترك القاعة.
برفعه شدة الصوت، إلى عتبة تخطّت معها القوة إلى العنف، يُقارب كرباج الموسيقى ليست بوصفها منطقة بين - ذاتية (Inter-Subjective) يتعاطف فيها المبدع والمستمع، وإنما بيان سياسيّ، يُطلقه ناشطٌ تقدميّ، يريد دفع العالم إلى تغييرٍ راديكالي. وعليه، لم تُوجَّه أبواق (أورغن - بوتين) نحو الأذن بوصفها سمّاعةً للروح؛ بل تجاوزتها، لتتجاهل حضور الجمهور، الذي استحال كتلةً بشريةً مجازيّة، كالتي تصوّرها الفكر الماركسي.
النزعة السيكولوجية نفسها، إلى ما يُشبه الحجر الطوعي لدى أتباع "الموسيقى الجديدة" في علاقتهم مع المتلقّي، وإن ليس حيال شدّة الصوت ههنا وإنما مدّة الزمن، تلمسها لدى المؤلفة الأميركية المقيمة ببرلين، كاثرين لامب (Cathrine Lamb) البالغة 41 عاماً، هذا مع الأخذ بعين الاعتبار عمق منطلقاتها الفلسفية وجاذبية معالجتها الموسيقية، فقد عُرض لها في ثاني أيام المهرجان عملٌ يعود إلى سنة 2016، عنوانه باللاتينية (Curvo Totalitas)، تمكن ترجمته بـ "منحنٍ شامل".
العمل مُصممٌ لجهازي كيبورد سنثسايزر وصنجة إيقاعية (تام تام). اتّخذت الآلات الثلاث لها مواقعَ متقابلة في أرجاء المسرح، تخترق جداره الرابع. تشكل من تداخل أصواتها ما يُشبه سحباً صوتية خافتة، تمتدّ في فضاء الصمت، تذكّر بالمنهج التأليفي الحداثي المعروف باسم "الطيفيّة" (Spectralism). تُحرف شيئاً فشيئاً وبدرجات متناهية الصغر الائتلافات الناتجة عن تسرّب أصوات الآلات بعضها إلى بعض، فتُحدث انحناءات لطيفة في الفراغ، كما لو أنها أصداء موسيقية للكون، إذ ينوء بكُتل الأجرام، كما تصوره الفيزيائي آينشتاين في نسبيّته.
بمدّها طول القطعة إلى ما يقارب أربعين دقيقة، تخطّت لامب عتبة قدرة المستمع على التركيز، الذي وجد نفسه وقد بات مفروضاً عليه بمقتضى سكونية العمل وتغوّره الشعوري وخلوّه من أي محفّزات حسّية، أن يخضع إلى جلسة تأمّل ماراثونية، لم تكن على الأغلب في حسبانه حين أراد ارتياد الحفل، وإلا لزم الأمر ربما إحضار "بساط يوغا" يستلقي عليه؛ إذ لم تمض الدقيقة العشرون، حتى بدأ يُسمع صرير المقاعد تحت وطأة إنهاك الأجساد والأذهان.
على القطب المقابل تماماً لأقصى ميدان "الموسيقى الجديدة" ومغالاة المشتغلين في نخبويّتهم ومقارباتهم الفكرية والسياسية للموسيقى إلى حد إغفالهم حضرة المستمع، يوجد هناك ميدان الموسيقى الجماهيرية، التي يدأب صنّاعها على صياغة كل نغمة وكل ضربة إيقاعية، بما يكفل للمنتج استمالة المتلقّي غرائزيّاً وحسّياً، لاجتذابه مستهلكاً؛ وعند نقطة ما ما بين القطبين، ثمة أيضاً موسيقى غايتها، بحسب تعبير المنشد الحلبي الراحل حسن الحفار (1943 - 2020) العبور: "من القلب إلى القلب".