Logo

فيلم Grunt... صمت الجنود وصراخ الضحايا

 حيث تذوب الحدود بين السينما والتاريخ، وبين الوثائقي والتأمل الفلسفي، تبرز الأيديولوجيا كشباكٍ نمرر عبرها، بوعيٍّ أو من دونه، وجهة نظرنا عن الحقيقة وما حدث في الماضي. 

عندما يقَدِّم عملٌ وثائقي سرديةً محكمةً تجسّد الحرب عبر عيون الجنود الأميركيين حصراً، تتحول الحقيقة والتاريخ بعد تشويههما إلى داعمٍ لتلك الأيديولوجيا، ومع رمي السياق السياسي أو الأخلاقي خلف عدسة الكاميرا.

 يعاد إنتاج الخطاب الوطني الأميركي المُتمحور حول البطل المعذب بدل كشف تعقيدات الحرب أو مساءلة الجنود حول دورهم في آلة القتل.

الحرب ليست مجرد معارك تدور على الخرائط، بل هي ارتجاجاتٌ تخلخل الروح قبل الجسد. وعبر الكاميرا وأدوات السينما، نستطيع تشريح آثار الحرب على شخصية المشاركين واللاعبين الأساسيين في المعركة، مع خطورة تحويلهم إلى ضحايا مطلقين. 

ذلك هو السيناريو الوثائقي لفيلم Grunt الصادر عام 2025. يدفع المخرج شون جيمس سبنسر المشاهد إلى أعماق هذه الارتجاعات عبر عيون من قابلهم، كهيكتور برافو، جندي المشاة الذي أكمل عقده الثاني وهو في المعركة. 

سبنسر لا يكتفي بتوثيق الحرب، بل يُنَقب في ذاكرة المشاركين فيها، وهذا نهجه الذي استعاده من أعماله السابقة ولم يحد عنه، ونستطيع تلخيصه بأنه تحويلُ التجربة الفردية إلى سردٍ جمعي يُجسّد ثمن الحرب الخفي.
 
اللقطات المُدمجة بين الأرشيف العسكري الخام والمشاهد التأملية، تُعيد إنتاج الحرب بوصفها كابوساً متكرّراً.

 والحرب هنا فردوسٍ مفقود بالنسبة إلى الجنود، تحولت إلى ذلك بعد أن سلبت منهم براءتهم رغماً عنهم. المشاهد العامة في الفيلم تنتهي دائماً بلقطة تحاول ترسيخ فكرة الضحية البريئة. 

الأصوات المتداخلة بين صفارات الإنذار وصرخات الجنود، وحتى الروائح التي يذكرها هيكتور، وهي بالنسبة له الشيء الوحيد الذي يمثل الحرب (رائحة الدم المحروق والبارود والأشلاء الطازجة المُتداعية)، كلها تفاصيل تشرح ما حدث ولا تتساءل حول دورها في عملية التطهير الرمزي للمؤسسة العسكرية.

مقارنةً بفيلم سبنسر السابق، Nguyen، الصادر عام 2023، وفيه يروي قصة لاجئ فيتنامي يصبح شرطياً في الموصل، يبدو Grunt دفاعاً غير مُباشر عن النية الحسنة للجندي الأميركي، 

على الرغم من أن هيكتور لم يكن يريد أن يتسخ حذاؤه أثناء تجميع أشلاء العراقيين الأبرياء.

 يعتمد سبنسر على حِزمةٍ من التقنيات لفرض التعاطف مع الجنود كالمونولوغات الداخلية بصوت الجنود المرتجف، واللقطات المهتزة التي تعكس رؤية الجندي المرتبكة، والصمت الذي يطبق بعد كل انفجار وكأن هذه الحرب لا كلمات لها.

صراخ العراقيين ودموع الأمهات العراقيات بعد أن فقدن أطفالهن في الانفجار، توضع خارج الإطار مقابل منح الجنود تعقيداً نفسياً. 

التحول الوحيد للمخرج في هذا الفيلم مقارنة بأفلامه السابقة، هو تحوله من تسجيل البطولات إلى تشريح الانهيارات، فبينما يكبر المراهق في المعركة تنحدر إنسانيته، وذلك ما نسمعه على لسان الجنود عندما يقارنون بين الحرب الحقيقية وأفلام هوليوود،

 ففي الأفلام يموت الرجل برصاصة واحدة، وفي الحقيقة يضطرون إلى إطلاق أربع رصاصات للتأكد من النتيجة.

يُكمل الفيلم الحوارات مع الجنود بالتدقيق على إرث الاضطرابات النفسية للمحاربين. لا يُدَرب الجنود على التعامل مع هذا الإرث، فقط على القتل بكفاءة.

 هنا تتحول الحرب إلى حرب داخلية ولها ندوبٌ كثيرة تتمظهر بنوبات غضب وإدمان وانفصال عن المجتمع ومحاولات انتحار.

تطغى هذه الحوارات على زمن الفيلم، وتتحول إلى غطاء ثقافي للحرب باعتبارها نتاجاً طبيعياً وحدثاً منفصلاً عن السياسة.
 
لا يُشار إلى أسباب غزو العراق، أو إلى مئات آلاف الأرواح العراقية التي أزهقت، أو أخطاء الاستخبارات، أو دور الشركات العسكرية، حتى الإرهابيون يُصوَّرون كأنهم كائنات مجهولة الهوية، مقاتلون من دول إسلامية. 

يبدو أن تجاهل خطاب الحرب على الإرهاب أسهل بكثير من تفكيكه. أيضاً، تظهر التضحية بوصفها فضيلة لها قسط وافٍ من التكريس في العمل، وتتحول إلى طقس دينيّ يرفع فيه العلم الأميركي أثناء التأبين.
 
يمثّل سبنسر وإنتاجاته جزءاً من ماكينة إعلامية تعيد تدوير خطاب الجندي الضحية، وتساهم في تحصين المؤسسة العسكرية من النقد. 

المقص المونتاجي الأيديولوجي الذي يصنع النسخة الأخيرة من العمل، يفصل بين جروح الجنود الداخلية والبنية التي تسببت بها، ويمنع، بسبب محدوديته الفكريّة، تجاوز النموذج العاطفي الأحادي الجانب، والانتقال نحو سرديات أعقد تجمع صوت الضحايا المدنيين مع الناشطين السياسيين والمنتقدين والجنود. 

لا أحد يريد وعظاً أخلاقياً مباشراً عن أضرار الحرب، هذا له مكان آخر، ولا أحد أيضاً يريد أن يقدم قصص الحرب مبتسرةً ومسحوبة الدسم لهذه الدرجة.

بدر العقباني