«نحو عالم مجهول»: فلسطين وسقوط القناع الأخير
في قلب المشهد السينمائي الفلسطيني الذي اعتاد أن يُقدِّم حكايات البطولة والمقاومة والصمود، يأتي فيلم «نحو عالم مجهول» للمخرج مهدي فليفل، مبتعدا بوعي كامل عن الروايات التقليدية، ليقدم تجربة سينمائية كاشفة عن وجع أعمق، وأشدّ تمزيقًا للذات من رصاص الاحتلال.
يأخذنا المخرج مهدي فليفل إلى أزقة أثينا الخلفية، التي تحولت إلى سجن كبير، حيث يتقاطع مصير شابين فلسطينيين: شاتيلا ورضا. هاربان من مخيم عين الحلوة في بيروت، يتحركان كما لو كانا على سطح هشّ، بدون أن تكون هناك أرض أصلًا تحتهما، نرى الشابين يتجولان في الشوارع، ينامان في أماكن مهجورة، يتسولان أو يبحثان عن فرصة طعام أو عمل بلا جدوى، ويناقشان حلمًا عن عالم آخر في ألمانيا، قد ينقذهم من هذا الجحيم.
صياغة مفهوم المنفى
منذ المشهد الافتتاحي، يرسم الفيلم خطوطه الفلسفية بوضوح،عندما تظهر على الشاشة عبارة المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد: «بطريقة ما، هذا هو قدر الفلسطينيين،
أن ينتهوا في مكان غير متوقع وبعيد عن بداياتهم»، هذه الجملة تعيد صياغة مفهوم «المنفى»، فتنتزعه من بعده المكاني المحدود كحالة جغرافية، لترتقي به إلى مستوى الغربة الوجودية الشاملة التي تأكل الروح وتستنزفها، فيغدو المنفى حالة دائمة، ونظاماً وجودياً يسلب من الإنسان كل شيء، حتى قدرته على رؤية نفسه كإنسان.
اختيار هذا التوجه السينمائي المغاير يمثل موقفاً فنياً وسياسياً عميقاً، فالسينما الفلسطينية، في مراحلها التاريخية المبكرة، حملت على عاتقها، وبشكل مفهوم، مهمة بناء أسطورة وطنية قادرة على حشد الهوية الجماعية في مواجهة محاولات محوها،
لكن عمل فليفل يعكس وعياً جديداً، حيث تتغير قواعد الأخلاق وتصبح المساومة قانون البقاء، إنه يفكك المفاهيم الرومانسية للمقاومة ليغوص في «الجانب المظلم للبشرية»، في التآكل الأخلاقي الذي يصيب الروح حين يصبح البقاء هو الهدف الأوحد.
أثينا: سقوط الأقنعة
يأتي اختيار أثينا كموقع للأحداث، لكشف التناقض الصارخ بين التاريخ والواقع. فهذه المدينة، التي كانت يومًا مهدًا للحضارة ومنطلقًا لمفاهيم الديمقراطية، تتحول في الفيلم إلى مقبرة للأحلام. وفي أزقتها الخلفية، تتهاوى الادعاءات الغربية الجوفاء بالحفاظ على حقوق الإنسان، لتصبح مجرد شعارات باهتة على جدران متآكلة، يستحضر الفيلم بذلك رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»، فكما كانت الصحراء هناك فضاءً للموت، تتحول العاصمة اليونانية من محطة للعبور، إلى سجن وفخ محكم يجهز على إنسانية من يلجأ إليها.
أثينا أيضا، كرمز لأوروبا التي تعاني من أزماتها الاقتصادية وأزمة اللاجئين، تضع معاناة الشخصيات في إطار أوسع من الإهمال العالمي، فمأساتهم تغدو مجرد «تشويش مزعج» في مدينة مثقلة بمشاكلها الخاصة، ليؤكد الفيلم على أن الحصار يتجاوز الشكل العسكري المباشر ليصبح حصاراً من نوع آخر: حصار اللامبالاة العالمية. العدو هنا هو عالمٌ يمارس إنسانية انتقائية ويتعامل معهم كمشكلة يجب التخلص منها.
الإحساس بالحصار الوجودي تؤكده اللغة السينمائية التي صاغها فليفل والمصور السينمائي ثيودوروس ميهوبولوس ببراعة، فمن خلال التصوير على شريط 16 ملم، يكتسب الفيلم واقعية شبيهة بالأعمال الوثائقية، تتراوح الكاميرا بين لقطات شديدة القرب داخل مساحات خانقة، تكاد تتنفس مع الشخصيات وتغرقنا في قلقهم، وبين لقطات بانورامية واسعة، تصور شوارع أثينا الواسعة، وتعري ضآلة أبطالها وهشاشتهم وسط صخب المدينة وضجيجها، هذا التناقض البصري هو تجسيد دقيق لحالة المنفى، فالأبطال يمتلكون حرية شكلية في التجول، لكنهم في الحقيقة محاصرون وجودياً داخل متاهة من الجدران الممزقة والأزقة القذرة، التي تحولت إلى «سوق نخاسة وجودي»، كل شيء فيه معروض للبيع: المخدرات، الجنس، الولاء، وحتى الأقارب.
الفيلم يسير بإيقاع متقشّف، يكاد يلامس التوقف. هذا البطء المتعمّد في المونتاج هو ما يمكن تسميته بـ«إيقاع الانتظار».
لا شيء يتحقق، لا خطة تنجح، ولا أمل يُنقذ، كل شيء يتآكل، كما لو أن الحياة نفسها أصبحت نوعًا من المراوحة في العدم، ويركز السيناريو على تفاصيل الحياة اليومية القاسية والمملة، ويجعل منها مرآة لليأس الوجودي.
يزيد الشعور بالاختناق تصميم الصوت المتقن، الذي يخلق «عالماً سمعياً مزدوجاً»:
من جهة، هناك «ضجيج المدينة الصاخب» الذي يمثل العالم الخارجي المعادي واللامبالي، ومن جهة أخرى، هناك «صمت داخلي مطبق» يعكس خواء الشخصيات وعزلتها،
بينما يغيب عن الفيلم أي أثر للموسيقى التصويرية التقليدية تقريباً، ويعتمد بدلاً منها على أصوات البيئة المحيطة لخلق التوتر.
سقوط الذات عبر علاقة مأزومة
في هذا السجن الكبير، يتقاطع مصير شاتيلا ورضا، محمود بكري في دور شاتيلا، الذي يحمل اسم أحد المذابح الصهيونية، هو العقل المدبر الذي يحاول إبرام صفقة مستحيلة للنجاة، بعد أن أدرك أن الغش والخيانة هما سبيله لتحقيق أحلامه.
يقدّم بكري أداءً مذهلًا في كتمانه الداخلي. عيناه المنهكتان، وجهه الصارم، وصوته الشاحب، كلها أدوات استخدمها بكري ليبني شخصية محطّمة تحاول النجاة عبر صفقة مشبوهة. شخصية تسكنها الخيانة، لا كرغبة، بل كخيار لا بديل له، فهو ليس مجرمًا، بل ضحية مهزومة.
في المقابل، يقدم آرام صباح دور رضا ببراعة جسدية مؤثرة، حيث يُجسِّد الإنسان الهش، الحالم، التائه بين ماضٍ لن يعود ومستقبل لا يجيء. جسده المدمن، الذي يحمل وشم خريطة وطن مغتصب لا يملكه، يصبح مأساة وجوده، تَماهي آرام مع الشخصية بتصرفاته المرتبكة، وصوته الخافت، ونظرته التي تبحث عن طمأنينة لا تأتي.
الشخصية الرئيسية الثالثة هو «أبو الحب»، تاجر المخدرات، الذي يتنقل بخفة بين عالمَي النسيان والوعي، ويبيع الهروب مرتين: مرة عبر المخدرات، ومرة عبر الشعر.
ان تفاعل هذه الشخصيات يكشف عن منطق وحشي، حيث يتحول كل جانب من جوانب الهوية الإنسانية إلى سلعة قابلة للتداول في «اقتصاد البقاء»، جسد رضا سلعة للجنس والمخدرات، عقل شاتيلا سلعة لتدبير عمليات الاحتيال، ثقافة أبو الحب سلعة تُباع إلى جانب السم، حتى الطفل مالك، في خطتهم اليائسة، يصبح مجرد بضاعة بشرية.
هذا التسليع الشامل يظهر انهياراً مجتمعياً كاملاً، حيث تذوب مبادئ التضامن والمجتمع في بوتقة رأسمالية فردية يائسة للمحرومين. هذا هو المنطق النهائي للشتات المطوّل كما يصوره الفيلم، إنه يجبرك على بيع قطع من روحك، وأرواح الآخرين، لمجرد الاستمرار في الوجود.
سقط القناع: قصيدة درويش كبيانٍ للانهيار
في أحد المشاهد المحورية، يلقي أبو الحب قصيدة محمود درويش «سقط القناع»، التي تحمل دلالة تاريخية عميقة، فالقصيدة، التي كتبها درويش في أعقاب اجتياح بيروت عام 1982، هي شهادة على عزلة المقاومة، وسقوط الأقنعة عن الأنظمة العربية وخياناتها، استدعاؤها في سياق أزقة أثينا الموحشة يربط يأس الشخصيات الراهن بلحظة تاريخية محددة من الخذلان العربي الكبير، ما يقدم تفسيراً عميقاً للجذور التي أدت إلى ما وصلوا إليه، إنها تمنح المشاهد فهماً للحالة الراهنة التي يعيشها أبناء الشتات، الذين هم ورثة تلك الهزيمة.
كما تصبح كلمات درويش بمثابة «ميثاق لصفقة البقاء» وإعلان عن عزلة مطلقة تدركها الشخصيات وتعيشها. عبارة «لا إخوة لك يا أخي، لا أصدقاء يا صديقي، لا قلاع» تتحول من مجرد صورة شعرية إلى حقيقة واقعية قاسية، وإلى دستور يحكم عالمهم الجديد. إنها إقرار بالفراغ الكامل من أي معنى جماعي، والفقد المطلق لأي حاضنة إنسانية.
والأمر الوجودي في القصيدة، «حاصر حصارك… لا مفر»، يتحول من أمر شعري تأملي إلى «استراتيجية بقاء حرفية»، ويقدم المبرر الفلسفي لانحدار الشخصيات نحو الجريمة، والخيانة. فإذا كانت القلاع قد سقطت والإخوة قد غابوا، يصبح الحصار هو الحالة الطبيعية، وتصبح الخيانة هي اللغة الوحيدة المفهومة.
إن طريقة تقديم القصيدة تعزز من تأثيرها، فهي تُلقى ببرود، بصوت ثابت، بدون أي تعليق أو شرح، وتُترك لتعمل في وجدان المشاهد كمرآة تعكس الحقيقة العارية.
هذا الأسلوب يكشف عن مفارقة مأساوية، وهي ما يمكن تسميتها بـ«تسليح الثقافة ضد ذاتها». فالشعر، وهو أحد آخر معاقل الهوية الفلسطينية، يُستخدم هنا في وكر للمخدرات، وعلى لسان تاجرها، للتعبير عن الانهيار الأخلاقي وتبريره، إن رسالة القصيدة عن الخذلان («لا إخوة لك») تُوظف، وتُحرف، لتصبح مصادقة على ضرورة البقاء الفردي على حساب الجماعة، هذا يشي بأزمة معنى عميقة، فعندما يتم استدعاء أسمى تعبيرات الروح الثقافية لخدمة انحطاطها، فهذا يومئ بمرحلة نهائية من اليأس.
جحيم العزلة الأبدي
لا يقدم الفيلم حلاً أو إدانة سهلة. إنه يفتح الدفاتر ليُظهر لنا كيف تتحلل المأساة السياسية الكبرى إلى سلسلة من المآسي الشخصية الصغيرة والمدمرة، التي تؤدي في النهاية إلى إفلاس الروح. نهاية الفيلم ليست انفجارًا، بل انهيار صامت، موت رضا بجرعة زائدة هو الثمن النهائي والمنطقي في اقتصاد البقاء، فهو السلعة التي استُهلكت. أما شاتيلا، الذي يبقى على قيد الحياة، فهو الخاسر الأكبر. يُترك وحيدًا تمامًا، متجردًا من آخر رابط إنساني، ليصبح التجسيد الحي لقصيدة درويش.
لقد وصل أخيرًا إلى ذلك «العالم المجهول» الذي افتتح به إدوارد سعيد الفيلم، ليكتشف أنه ليس ألمانيا أو أي أرض موعودة، بل هو جحيم شخصي من العزلة والندم. يتركنا فليفل مع حقيقة قاسية: في منفى لا ينتهي، قد تكون أكبر خسارة ليست فقدان الوطن، بل فقدان الذات في سبيل البقاء على قيد الحياة.