Logo

"آسف، حبيبتي": فكرة عميقة وسيناريو بسيط ومعالم واضحة

 أثارت الأميركية إيفا فكتور (ممثلة وسيناريست ومخرجة) الانتباه في أول إخراج لها للروائيّ الطويل "آسف، حبيبتي"، المشارك في برنامج "نصف شهر السينمائيين"، بالدورة 78 (13 ـ 24 مايو/ أيار 2025) لمهرجان "كانّ"، 

علماً أنّه فاز بجائزة "والدو سالت للسيناريو" في الدورة 41 (22 يناير/ كانون الثاني ـ 2 فبراير/ شباط 2025) لـ"مهرجان ساندانس".

يحمل الفيلم نَفَساً مستقلاً، ليس لابتعاده عن شركات الإنتاج الكبرى، وعن العجلة التقليدية للإنتاج، بل لتجرّده من أحمال صُور الممثلين المكرّسين، أو النجوم. 

كما أنّه لم يُكتب كسيناريو متشعّب، ذي بناءات فنية مُعقّدة، وأحداث متواترة، وإثارة زائدة، ومجاميع بشرية تقدم الذروة بتركيزٍ مفرط.

فالسيناريو، الذي كتبته إيفا فكتور، بسيطٌ وواضح المعالم، إذْ عرفت كيفية توزيع المنطلقات النفسية فيه، بنحت فكرة مهمّة للغاية، يمكن تلخيصها في جملة بسيطة، تطرح سؤالاً جوهرياً: كيف تتعافى المرأة من الصدمة؟ 

في حالة أغنِسْ (فكتور نفسها)، يتعلّق الأمر بـ"حادث" جنسي تعرّضت له مع بريسون ديكر (لويس كانسِلْمي)، المشرف على دراستها العليا. في الوقت نفسه، لا يمكن وصف "الحادث" بـ"اغتصاب"، لأنّ هناك حيثيات تصنع "شكّاً معقولاً". لكنْ، رغم ذلك، تعاني أغنِسْ صدمةً.

بهذا الحيّز الدرامي الأسود، صاغت فكتور مقاربتها السينمائية، محاولةً ضبط معايير أخلاقية وقانونية، لضبط الحادث ـ الجريمة. أمرٌ لم يُدعَم من جامعة الطالبة والأستاذ، ولا من الناحية القانونية، أي الشرطة والمحكمة، ولا من ناحية الضمير، الذي استيقظ في حالة أغنِسْ، لأنّها لم تقدّم شكوى لمعرفة عدم جدواها القانونية. 

وهي لم تشأ أنْ يتضرّر ابن مُعوّق، لأنّ الجاني والده الأستاذ المُطلّق.

الأهمّ، في الوصفة السحرية التي قدّمتها فكتور، تمثل في كل ما تعرّضت له أغنِسْ: ضرورة الدعم العاطفي المُساعد على تخطّي الصدمة. 

لم تقدّم هذا مباشرة، في مشاهد وعظ وإرشاد، بل عبر أحداث محبوكة جيداً، ساهمت في خلقها وبلورتها الشخصية الثانية، 

ليدي (نعومي آكي)، صديقتها المقرّبة، فهي السند الحقيقي لها، لم تتركها لحزنها وكآبتها وميلها الانتحاري، بل دعمتها في كل جملة وفعل وحلم وهاجس، عابرةً بها مرحلة مظلمة، لم تصل فيها إلى النهاية المثالية، لكنّها خرجت من النفق، إذْ بدأ يتراءى لها نورٌ في نهايته.
 
"آسف، حبيبتي" فيلم هادئ وضاجّ في الوقت نفسه. اختارت فكتور له فضاءات طبيعية تقترب من العزلة والوحدة، ومزجت البصريّ بالنفسي، 

وأوجدت انسجاماً واضحاً بين البطلة المجروحة والبيئة التي تعيش فيها، تعكسها الغابة المفتوحة، والبيوت المتباعدة، والمناخ الشتوي البارد، الذي يمكن الإحساس به بسهولة في أنفاس الشخصيات، وتجمّد أطرافها. لكنّ العلاقة بين أغنِسْ وليدي تُشعر المتلقي بدفء وطمأنينة، 

رغم الرمزيات القاتمة التي تقود مباشرة إلى تأويل، يُفيد بأنّ هذا العالم لا يصلح للعيش، ولا يمكن التأقلم فيه بسهولة، لأنّه ظالم ومُفجع ومؤلم. ما يقود إلى هذه النتيجة المباشرة، العنوان (آسف، حبيبتي)، الذي يُحيل في ظاهره إلى علاقة بين رجل وامرأة، تنتهي بتأسّف الحبيب لحبيبته،

 لكنّه في الفيلم يحيل إلى الحوار بين أغنِسْ ورضيعة ليدي، وانْ كانت الأخيرة لا تنطق، بل تطلق إشارات وردّات فعل بريئة. أغنِسْ كانت تُحدّثها وتتأسّف لها، لأنّها وُجدت في هذا العالم، الذي حوّلها من قبس نور، مُحبّ للأدب والنجاح، إلى ضحية خاملة ذابلة، بميل انتحاري.

رغم تعدد مسؤولياتها فيه (كتابة وإخراجاً وتمثيلاً)، استطاعت فكتور وضع المتلقّي في اختبار فاصل بين الضمير والسلوك البشري، عبر الشخصية المركّبة والمُعقّدة لأغنِسْ، التي أدّتها. 

أي أنّها عكست إحساس القهر والصدمة الذي تعرّضت له الشابة الطالبة، وعكستها كأفعال فيزيائية ومعنوية، ما يوحي باختبارها جيداً تلك الشخصية التي صنعتها في عقلها أولاً، ثم كتبتها وجعلتها فكرة مُصوّرة. 

نجحت في هذا، لأنّه يصعب فتح حوار جانبي لمناقشة سقطة أو مشهد غير مُقنع في التمثيل. كما أنّها غطّت معظم الجوانب في الموضوع، 

ووزّعت الشحنات العاطفية على الفصول بتوازن واضح، فلم تُرهِق المتلقّي، ولم تضغط عليه كثيراً، بل صنعت له صفاءً ليتأمّل في تصرّفاته وأفعاله، ولينتبه إلى النظم الأخلاقية والقانونية التي ساهمت في صنعها وتكريسها في عقود من الزمن.

هذا فيلمٌ عن العلاقات، وعجز القانون، وتفكّك الروابط المجتمعية، وصرخة المرأة وجراحها في وسط لا ينتصر إلا لصورته أمام الآخر. 

وفي الوقت نفسه، قدّم جانباً مُضيئاً، انعكس في الطمأنينة التي تخلقها الصداقة، وقدرتها على مداواة الجراح، وإنّ كانت عميقة. 

بذلك، يُعتبر من الأفلام السينمائية المهمّة، التي قدّمت مضموناً قوياً، انسجم بوضوح مع مظاهره البصرية، والتي طرحت مداخل عدّة إلى التأويل، بعدما أشبعته بالرمزيّات والمشاهد والأحداث المفتوحة.

عبد الكريم قادري