من الواقع إلى الرواية إلى السينما… «بداية ونهاية» حكاية مصرية لا تنتهي
هذا الفيلم المنتج عام 1960، يقول عنه الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ، إنه عبارة عن قصة حقيقية لأسرة مصرية يعرفها، وقد سرد تلك القصة في رواية له بالعنوان ذاته، وأخرجها للسينما، أستاذه في تعليمه السيناريو الراحل صلاح أبو سيف.
حكاية أسرة تفقد معيلها الرئيس- المنتمي إلى طبقة الموظفين، الذي لم يترك لهم شيئاً، فتسعى الأرملة» أمينة رزق» للحصول على الراتب التقاعدي، بصعوبة. عائلة معدمة، تنتقل من شقتها في الدور العلوي إلى «البدروم» لأجل توفير الفارق بين أجريهما، البالغ 50 قرشاً. يخلص المشاهد إلى الهم الكبير، الذي كانت تحمله الأم على رأسها، فتبيع أثاث غرفة زوجها الراحل، وتقنّن مدة إضاءة «اللمبات» اقتصاداً في نفقات الوقود، وتضطر إلى عمل العيش في البيت. كل ذلك في خضم ما يتكشف عن دواخل أبنائها على الترتيب، حسن «فريد شوقي» ونفيسة «سناء جميل» وحسين «كمال حسين» وحسنين «عمر الشريف».
حسن العاطل عن العمل، الذي ترك تعليمه بسبب دلال أبيه، ومن ثم يتجه إلى البلطجة والغناء في الأعراس وتجارة المخدرات، فيترك البيت، ويرافق امرأة سيئة السمعة، ويشاركها مسكنها. يعين أخويه، حين يلجآن اليه، في إكمال مشوارهما في التعليم، ومن ثم تخرجهما.
وقبل أن نعرج إلى مصير الابن الكبير، نحلل شخصية حسين، الهادئ المتزن، الذي يضحي بإكمال مشواره التعليمي، لأجل العائلة، ويرضى بتعيينه درجة ثامنة في طنطا.
هو الابن الذي تعتقد الأم، بأنه يشبهها في طباعه وسمات شخصيته. وهنا تبرز الشخصية المناقضة له، الأخ الأصغر حسنين، المتذمر دائماً، الذي لا يرضى بأي شيء أبداً،
وهو يستنكف من بيته وبيئته، ويتطلع إلى مستوى الطبقات العليا المُرفهة، التي يتوفر لها كل شيء، فيما الطبقات الدنيا، التي يرتع فيها هو، تعيش الحرمان من كل شيء. وهو يرى أنه الابن المُدلل، الذي يطلب كل شيء فيُطاع.
وكانت الأم تضيق من تذمره، وعدم تقديره لما هم فيه، وهو في الهزل أقرب منه إلى الجد. وقد فتح جار العائلة فريد أفندي، أمام حسنين الفرصة لخوض تجربة عاطفية مع ابنته بهية «آمال فريد»، حينما طلب من الأخوين حسين وحسنين، اللذين كانا في المرحلة الثانوية، ان يدرّسا ابنه الصغير في المرحلة الابتدائية، مقابل مبالغ من المال،
فشعرت العائلة بأنه نوع من الإشفاق عليهم، فاستجابا، وبوساطة ذلك أغرم حسنين غرام المراهق، بالبنت، ولما كانت متزنة لا تستجيب، ظل يطاردها لكي تقع في هواه، الأمر الذي سبّب شجاراً بين الأخوين على خلفية نزق حسنين، ومحاولاته الوصول إلى ما يريد بأي وسيلة. حتى إن بخطبتها من أبيها مباشرة، خوفاً من غضب أمه العزوم.
ولكنها كانت خطبة مفتوحة غير رسمية إلى أن يكمل تعليمه. وقبل أن نعرف مصير هذه الشخصية. دعونا نذهب إلى شخصية نفيسة، تلك الشخصية المضحية، التي كانت تحاول عمل أي شيء في سبيل إرضاء العائلة، فعملت خياطة،
رغم ما أثاره هذا العمل من خلاف بين أفراد العائلة، فكان أول المتذمرين حسنين، وأول المؤيدين الأم، التي تقدر حال العائلة المأساوي تقديراً دقيقاً. نفيسة التي بقيت من دون زواج، بسبب قبحها وفقر عائلتها. كانت تشعر برغبات جسدها كامرأة،
ولذلك استغل صاحب مخزن بقالة سلمان «صلاح منصور» نقاط ضعفها، فكان يهبها حاجيات من المخزن مقابل قبلات، إلى أن غرّر بها، بحجة أنه سيتزوجها. وهتك عرضها. ومنذ ذلك الوقت،
وبعد أن تزوج سلمان أخرى، وتشاجرت معه في الشارع. مضت تهب نفسها إلى نماذج مختلفة من الرجال، كأنها اليائسة التي تدفع نفسها الى الهاوية، باندفاع عميق من اللاشعور.
انتقال حسين من طنطا إلى القاهرة، دفعه إلى إكمال تعليمه العالي وهو مستمر في الوظيفة. ويبدو أنه باتزانه والمضي بهدوء في مسيرة حياته، قرر بثقة عالية في النفس أن يخطب بهية، بعد أن فسخ حسنين خطبته منها، بحجة أنها لا تناسبه، بل إنه طمع في أن يناسب ابنة مفتش الداخلية، الذي كان يعرف أباه الراحل حق المعرفة، وبالتأكيد، ليس إلى درجة الندية، ليخلع حسنين نفسه تماماً عن طبقته المعدمة.
ولكن «تجري الرياح بما لا يشتهي الفقراء»، مع الاعتذار للمتنبي، إذ يصل إلى مسمعه بما تقوّله مقرّبون من هذا الرفيع المقام، عما سُمّي بالدرك الأسفل لعائلة هذا الذي يريد أن يصل عنان السماء وهو بلا أجنحة.
فينقلب حسنين على عقبيه، ليصب جام غضبه على المستوى الرديء لعائلته، فهو ضابط، وأخوه حسن مجرم. كيف يستوي الأمران؟ حيث يقتحم البوليس شقة البدروم، بحثاً عن المجرم الهارب، فيفتضح أمرهم في الحي، وتضطر العائلة للانتقال إلى حي جديد.
بداية النهاية
يمكن للمشاهد والقارئ أن يفطن إلى ثيمة مهمة في الفيلم والرواية معاً، وهي ثيمة الموت التي تطوّق النصين المرئي والمقروء، فكانت مطرقة البداية، عبر موت الأب المفاجئ، فقد كان يتناول الفطور مع العائلة، أما سندان النهاية فكان موت الأخت والأخ سوية بالانتحار.
في نهايات الفيلم تحدث كارثتان، فقد جُلب حسن مصاباً إصابة خطيرة في رأسه، إذ ترصّدت له مجموعةً من أعدائه فهاجموه وسلبوا ماله ولاذوا بالفرار. ومن ثم يزداد انشداه الضابط المتذمر من كل شيء، حينما يدعى الى قسم البوليس، بأمر من ضابط القسم ليُفاجأ أن أخته نفيسة ضُبطت في بيت سيّئ السمعة. وحين يتسلمها يدعوها إلى أن تنتحر، وهي التي كانت لديها رغبة أكيدة، للخلاص من حياة تعذبت فيها كثيراً، سوء حظها وفقرها قاداها إلى الرذيلة. كان يشاهدها ترمي نفسها في النهر، وقبل ذلك بهنيهة نادى عليها نداء من أحسّ بالذنب. فقد غرقت وانتشلها بعضهم، حاولوا إسعافها، لكنها أسلمت روحها إلى البارئ. كان الشاهد الوحيد على موتها. ندم كثيراً على إجبارها على الانتحار. كانت تجلب له ما يريد من دون أن يسألها من أين لك هذا. شعر بحقارته، وبأنه كان أحطّ أعضاء الأسرة. محاكمة نفسه أدت به إلى الانتحار أيضاً، أما والوضع كذلك، فإن حسين ذا السلوك القويم، هو الذي يخرج من إعصار هذه الأسرة المنكوبة سالماً ومعه أمه، في رسالة واضحة بأن الشر والفضيلة ينحدران في آخر الأمر، ولا عزاء للفقراء الذين ساروا على ما هو خارج عن أخلاقيات المجتمع وضوابط الشرع.
عناصر نجاح
ينبغي أن نعلم أن هذه أولى روايات محفوظ، التي حُوّلت إلى السينما، وكان قد نشرت عام 1949. كما نحدس أن عناصر فعالة في هذا الفيلم أسهمت في أن يتبوأ المرتبة السابعة ضمن استفتاء أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، منها ألمعيّة كاتب الرواية التي أعدّت كفيلم، وهو عميد الرواية العربية الراحل نجيب محفوظ، ومن ثم إخراجه على يد صانع أفلام السينما الواقعية الراحل صلاح أبوسيف، كما أن نخبة نجوم السينما المصرية تجمعوا في هذا الفيلم.
لا يستطيع مشاهد هذا الفيلم أن يتجنب التفاعل مع أحداثه التراجيدية، كما لا يستطيع أن يجهل رسالة الفيلم في انتقاد الفيلم للواقع المزري للطبقات الفقيرة، التي تعيش عيشة الكفاف، مقابل ثراء طبقات أخرى.
كما يؤمن المشاهد أن هذا الواقع يفرز شخصيات مثل حسن، الذي يتحصل المال بطرق غير شرعية، كما لانعدم وجود نموذج للشخص المتزن، الذي يتصرف بوعي وحكمة إزاء حوادث الدهر مثل حسين،
وبالتأكيد يجد المشاهد نظراء النموذج المتنمر مثل حسنين، الذي يريد التسلق بأي طريقة، بالقفز على واقعه، ذلك الذي ينتقد سلبيات الآخرين ويحكم عليهم بالموت، مثلما حصل مع أخته نفيسة، وهو مليء بتلك السلبيات.
وحين يستيقظ من تجاهله لحقائق الأمور، يحكم على نفسه بالموت أيضاً. وحين نأتي على نفيسة المنتحرة، فبالتأكيد لها نظيراتها ممن يُغرر بهن، وهن تحت غائلة الفقر والحرمان والعنوسة.
ماذا عن الرواية؟
أول ما يلفت نظر المشاهد القارئ للرواية، أن الفصول العشرة الأولى فيها، التي تتحدث عن استدعاء الشقيقين في المدرسة الثانوية، وإخبارهما بموت أبيهما، ومن ثم وقائع تجمع أبناء الحارة قرب باب العمارة، التي فيها شقة الميت، ومن ثم التشييع بحضور جمع غفير من زملائه الموظفين وإقامة مجلس العزاء. كلّها لم ترد في مطلع الفيلم. الذي ابتدأ مع عودة الطالبين إلى المدرسة، والأسرة قد سكنت البدروم.
إذن، هي رؤية المخرج الشهير صلاح أبو سيف، بالابتعاد عن البكائيات المعروفة في الأفلام الرومانسية، والولوج إلى بؤرة الحدث، يوميات هذه العائلة، وقد وضعت تحت مجهر الفقر والترمل واليتم ابتداءً، ومصير أبنائها المأساوي انتهاءً.
ويرى المتبحّر في المقارنة بين الرواية وسيناريو الفيلم المأخوذ عنها، أن الرواية تكشف أعماق الشخصيات، التي لها أدوارها في تطور الأحداث، ومن ثم تناقش مع الآخرين، وتتأمل مع ذواتها، إزاء ما حدث وما سيحدث، خاصة مونولوجات حسنين ونفيسة، الأول، الذي كان عديم الرضا لواقع الأسرة المعدم.
والثانية التي كانت تغالب نكبتها في ضياع كل شيء منها أمام الآخرين، بل تشعر باليأس التام بعد أن خُدعت عاطفياً، وتكالبت أخطاؤها، كما الغريق الذي لا يشعر بالخطر المحدق إزاءه.
الفيلم إذن، نص بصري قائم على سيرورة الأحداث وحراك الشخصيات، بينما الرواية تؤول الأحداث، وتوغل في أعماق الشخصيات، مع محاكمة مونودرامية لما فعلت، وتوقّع دائم لما هو مفرح ومؤلم في مصائرها.
باقر صاحب
كاتب عراقي