فيلم "لد" في بيروت: قصة مدينة وذاكرة
في أمسيةٍ احتفائية بالسينما والذاكرة الفلسطينيتين، أقام نادي لكل الناس بالتعاون مع دار النمر عرضًا خاصًا لفيلم "لد" (Lyd) للمخرجين رامي يونس وساره إما فرايدلاند مساء الخميس 9 تشرين الأول في بيروت، بالشراكة مع شركة MAD Solutions (المنتج المنفذ هو روجر ووترز). شهد العرض حضورًا متنوعًا من المهتمين بالفن الفلسطيني والسينما التوثيقية، ضمن سلسلة فعاليات تسعى إلى إحياء المدن المنسية واستعادة الذاكرة الجماعية الفلسطينية من خلال الصورة والفن.
يستعيد فيلم "لد" قصة مدينة كانت يومًا ما قلب فلسطين النابض وصلة وصلها بالعالم، ليروي حكايتها كما كانت، وكما أصبحت، وما كان يمكن أن تكونه لولا النكبة والتهجير.
يمتزج في الفيلم التوثيق بالتخييل، ليجعل من المدينة بطلة وراوية في آنٍ واحد، بصوتٍ أدّته الممثلة الفلسطينية مايسة عبد الهادي التي منحتها حضورًا دراميًا وإنسانيًا عميقًا.
تتكلم المدينة عن نفسها بضمير المتكلم، مستعيدة وجوهًا وأصواتًا ومنازل هجّرها الاحتلال، كأنها تُعيد رسم الذاكرة بالحواس لا بالكلمات.
الفيلم من توقيع المخرج الفلسطيني رامي يونس، المعروف بجرأته في توظيف السينما كأداة مقاومة ثقافية، والمخرجة الأميركية اليهودية ساره إما فرايدلاند، التي تتمحور أعمالها حول الذاكرة والعدالة وتفكيك السرديات المهيمنة عن الشرق الأوسط.
يأتي هذا التعاون بين رؤيتين مختلفتين، الفلسطينية واليهودية الأميركية، ليولد عملاً بصريًا نادر الحساسية، يجمع بين الحلم والجرح، وبين التاريخ والاحتمال.
فاللقاء بين المخرجَين لا يهدف إلى التوفيق بين روايتين متناقضتين بقدر ما يسعى إلى إعادة بناء الذاكرة الفلسطينية بلغة إنسانية وعالمية.
على امتداد 79 دقيقة، يأخذ الفيلم المشاهد في رحلةٍ بين اللُّد القديمة المزدهرة واللُّد الحديثة الممزقة. وبين الزمنين، تتجلى الأسئلة الكبرى: من يملك الذاكرة؟ وهل يمكن للمدن أن تنجو من النسيان؟
ينتمي العمل إلى ما يُعرف بـ"الوثائقي التخيّلي" (Speculative Documentary) — وهو شكل سينمائي حديث يمزج الواقع بالتصور، في محاولة لإعادة تخيّل الماضي بوصفه مساحة مفتوحة للمستقبل.
بهذه المقاربة، يصبح الفيلم أكثر من سردٍ للتاريخ، بل فعل مقاومةٍ فنية ضد المحو، وبيانًا بصريًا حول الوجود الفلسطيني الذي يصرّ على الاستمرار في مواجهة النسيان.
على عكس كثير من أفلام الجيل الجديد في السينما العربية التي انشغلت بعرض الخراب السياسي والنزاعات من دون عمق فني أو رؤية إنسانية، يتجاوز "لد" هذه المعضلة.
فبينما سقطت بعض الأفلام في فخّ التبسيط السياسي أو الميلودراما الطائفية، يقدم الفيلم هنا رؤية جمالية متكاملة توازن بين الشكل والمضمون.
يعتمد المخرجان على إيقاع بصري هادئ وشاعري، يستخدم الأرشيف والخيال والمقابلات والمونتاج الإبداعي لصياغة قصيدة سينمائية عن الانتماء والفقد. المدينة ليست موضوعًا للتوثيق، بل ذات تتكلم، تستعيد كرامتها وتروي حكايتها بلسانها.
لم يكن عرض الفيلم في دار النمر مجرد مناسبة فنية، بل حدثًا ثقافيًا مقاومًا، يستعيد فكرة أن الذاكرة فعلٌ جماعي لا يمكن فصله عن الحاضر. فـ"لد" لا يقدّم سردًا عن الدمار فقط، بل يفتح بابًا نحو ما يمكن أن يكون عليه المكان لو لم تُصادر حريته.
الفيلم بهذا المعنى يواصل تقليدًا متجذرًا في السينما الفلسطينية التي تحوّل الغياب إلى حضور، والمنفى إلى لغةٍ للحياة.
خرج الجمهور من القاعة بانطباعٍ واحد: أن "لد" ليست مدينة ضائعة، بل كائن حيّ يبحث عمّن يصغي إليه. بين الواقع والخيال، يصوغ يونس وفرايدلاند فيلمًا عن المدن التي تظلّ حاضرة في الذاكرة رغم محاولات محوها، وعن الذاكرة التي تتحول إلى شكلٍ من أشكال المقاومة.
فـ"لد" في النهاية ليست فقط مدينة فلسطينية مدمَّرة، بل رمزٌ لكل المدن التي طُردت من خرائطها وبقيت حيّة في وجدان أهلها — مدينة تتكلم، وتقاوم النسيان بالصوت والصورة.
أغنار عواضة
كاتبة من لبنان