المشهد الفني السوري بعد الأسد: فرص وتحديات
الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 تاريخ لن ينساه السوريون ولا العالم، يمثل لحظة فارقة في تاريخ سورية المعاصر، تاريخ شهد سقوط نظام بشار الأسد. مع سقوط النظام تحرر الشعب من سنوات طويلة من السجون والموت، وتغير المشهد الفني والسياسي والاجتماعي جذرياً. الفن السوري، الذي لطالما كان مرآة المجتمع، يعكس اليوم تحولات هذه المرحلة: بعض المساحات شهدت انتعاشاً ملحوظاً، وأخرى ما زالت متأرجحة بين التقدم والتراجع، فيما يبقى القطاع في حاجة إلى دعم مؤسسي وفني مستدام.
بعد سنوات من الغياب القسري، بدأ عدد من الممثلين المعارضين للنظام بالظهور في الدراما السورية، أبرزهم جمال سليمان ومكسيم خليل، إضافة إلى يارا صبري، وفارس الحلو، وسلافة عويشق، ومحمد أوسو. غياب هؤلاء الفنانين كان نتيجة حظرهم أو عدم قدرتهم على أن يكونوا في سورية. الموسم الرمضاني المقبل يشهد مشاركة واسعة لهؤلاء النجوم، مما ينشط الشاشة السورية ويجدد حضور الوجوه المحبوبة التي غابت طويلاً عن الدراما المحلية. هذا الانفتاح يعكس تحسناً تدريجياً في التعامل مع الفنانين ويكسر نمطية التكرار في الدراما.
لا يقتصر الانتعاش على عودة النجوم، بل يشمل تنوع الإنتاج بين شركات سورية وعربية. هناك أكثر من خمسة عشر عملاً سورياً جاهزاً للعرض في رمضان، من ضمنها مسلسلات "عيلة الملك" و"مطبخ المدينة" و"اليتيم" و"بنت النعمان". يشهد الموسم الرمضاني المقبل مشاركة نحو 90% من نجوم البلاد، ما يعكس عودة قوية للدراما السورية بعد سنوات من التراجع.
لكن المخاوف الأمنية مستمرة، إذ فضّل بعض المنتجين تصوير أعمال في لبنان بسبب تهديدات محتملة، مثل خطف المنتج محمد قبنض وحوادث حرائق مواقع تصوير، ما يعكس الحاجة إلى دعم أمني ولوجستي أقوى لضمان استمرار الإنتاج الفني في سورية.
شهدت ساحة الغناء والرقص في سورية فعاليات قليلة، إذ اقتصرت الحفلات على أماكن خاصة كالمطاعم والفنادق، وغابت النشاطات الكبيرة في دار الأوبرا والمراكز الثقافية. تراجع حضور الصوت النسائي الغنائي نتيجة قرارات وزارة الثقافة التي تمنع المغنيات اللواتي كنّ مرتبطات بالنظام السابق من المشاركة في الفعاليات الفنية. العروض الراقصة شبه مغيبة، ويواجه المعهد العالي للرقص والموسيقى تحديات في جذب الطلاب، إذ اضطرّت لجان القبول إلى استقبال كل المتقدمين نتيجة قلة العدد، إضافة إلى الإضراب في المعهد العالي للفنون المسرحية بعد تعيين غطفان غنوم عميداً متجاوزاً القوانين المعتادة.
عدد المسرحيات منذ سقوط النظام محدود جداً، ولم يتجاوز خمسة عروض في دار الأوبرا ومسرحي الحمراء والقباني، ما يعكس تراجع النشاط المسرحي بوضوح. مع تعيين نوار بلبل مديراً للمسارح والموسيقى، يأمل المسرحيون في خطط تنشيطية خلال الفترة المقبلة.
السينما ما زالت غير واضحة المعالم، من دون إنتاجات جديدة أو تطوير في دور العرض، بينما يستمر احتكار القطاع من قدامى النظام السابق، مع تركيز على الدعاية العسكرية والسياسية.
لطالما شبّه كثيرون من العاملين في الوسط الفني نقابة الفنانين بفرع أمني صارم، يسيطر على قرارات الأعضاء بعقوبات وتأديب صارم، خصوصاً في عهد النقيب الراحل زهير رمضان ولاحقاً محسن غازي. ومع تسلّم الفنان مازن الناطور قيادة النقابة، ظهرت توقعات بتغييرات جذرية. بدأت المرحلة مثيرة للجدل منذ تعيينه من دون انتخابات رسمية، ما أدى إلى محاولة "انقلاب" من بعض الأعضاء في غيابه، لكنه تمكن من السيطرة لاحقاً وإعادة تنظيم النقابة.
أثار لاحقاً قرار فصل الفنانة سلاف فواخرجي لتأييدها النظام السابق جدلاً واسعاً حول حدود سلطة النقابة بين السياسة والفن، لكنه عاد وفتح باب التعاون مع زملائه، وأصدر قرارات استثنائية لضمان انضمام فنانين تجاوزوا شروط العمر السابقة، مع محاولات لتحديث اللوائح الداخلية لتحسين الوضع القانوني والخدمي للفنانين.
يظل المشهد الفني السوري متقلباً، إذ شهدت بعض القطاعات تقدماً ملموساً، مثل عودة نجوم المعارضة إلى الشاشة والموسم الدرامي الرمضاني الذي يشارك فيه معظم نجوم سورية، بينما ما زالت قطاعات الغناء والرقص والمسرح والسينما تواجه تحديات كبيرة، تتطلب إصلاحات ودعماً مؤسسياً مستمراً على المستويات القانونية والأمنية والفنية لضمان استقرار هذه الميادين.
الانفتاح على النجوم السوريين خارج البلاد وإنتاج أعمال درامية عربية مشتركة يعكس فرصاً حقيقية للتجدد وإعادة بناء القطاع الفني بعد سنوات من الغياب والقيود. رغم كل الضغوط والسياسات القمعية المتعاقبة، تظل سورية منارة للدراما والفن،
والمرحلة الحالية تؤكد الدور الحيوي للقوة الناعمة في إعادة رسم صورة البلاد عربياً وعالمياً، من خلال إبراز التنوع الفني والمواهب السورية وإتاحة الفرصة للفنانين للتعبير عن أنفسهم بحرية أكبر، مع تعزيز حضورهم على الساحة الإقليمية والدولية.