"لوميير".. كيف بدأت مغامرة السينما؟

 من ليس له قديم ليس له جديد، أو، من ليس له ماض ليس له حاضر. هذه حِكم من التراث الشعبي تنطبق بخاصة على الفيلم الفرنسي التوثيقي "لوميير: مغامرة السينما تبدأ" للمخرج تيري فريمو. الفيلم من إنتاج عام 2016.

لوميير، أو الأخوين لوميير، هما اللذان اشتهرا منذ عام 1895 بعد أن قاما بعرض مجموعة أفلام قصيرة في مقهى باريسي، جرى التعارف، لزمن طويل، على اعتباره أول عرض سينمائي في تاريخ السينما على جمهور عام لقاء تذاكر مدفوعة الثمن. الأفلام كانت قصيرة بطول 50 ثانية لكل فيلم، أشهرها فيلم "وصول القطار إلى المحطة".

باستثناء هذه الأفلام الأولى وأفلام إخبارية قصيرة أنتجها الأخوين لوميير، وجرى تصويرها في مختلف أرجاء العالم من قبل مصورين مراسلين تابعين لهما، بقيت تجربة الأخوين لوميير مجهولة القيمة لمعظم الناس لسنوات طويلة، وحتى للسينمائيين وللباحثين في تاريخ السينما، والذين كانوا يعتبرونها أفلاماً رائدة إنما بسيطة وساذجة!

جاء فيلم "لوميير: مغامرة السينما تبدأ"، المكون من عدد كبير متنوع من أفلام الأخوين لوميير، معظمها يعرض للمرّة الأولى، ليكشف أن هذه الأفلام التي طالما اعتبرت "بسيطة وساذجة" تضمنت في داخلها، ولو عن غير قصد، أهم العناصر التي شكلت لاحقاً ما سمي بـــ "لغة السينما"، ومن أبرزها لحمة العلاقة الجنينية المتداخلة ما بين الروائي والوثائقي، والتي صارت تدعى في العصر الحديث بـــ"دوكو دراما" أو "الدراما الوثائقية"، و"اللقطة – المشهد" وطريقة التصوير من خلال "عمق المجال"، وهي الطريقة التي اشتهر بها فيلم "المواطن كين" للمخرج/ الممثل أورسن ويلز.

يلقي فيلم "لوميير: مغامرة السينما تبدأ" نظرة جديدة على أفلام الأخوين لوميير. لا يكتفي الفيلم بعرض هذه الأفلام بل يتعدى ذلك إلى تحليلها، خاصة من خلال التعليق الذي يشرح ويفسر ويقدم المعلومات، ومن خلال المقارنة بين عرض نماذج إعادة التصوير المتكررة لمشهد واحد، ومن امثلة ذلك فيلم "خروج العمال من المصنع" الذي أعيد تصويره 3 مرات مع إضافات جديد في كل مرّة، و"إفطار الطفل" والفيلم الوحيد الذي وصف بأنه فيلم روائي كوميدي (أول كوميديا في تاريخ السينما) "ساقي البستان يرش نفسه" وهي 3 أفلام كانت من ضمن الأفلام التي تضمنها العرض الأول.

ما يميز هذا التعليق ليس فقط معلوماته الجديدة الشيقة، ودقته وتحليله العلمي، بل أيضاً لغته البسيطة وأسلوبه السلس في نقل المعلومة، ووضوح الفكرة، بحيث تصل إلى أي مشاهد وليس فقط إلى المهتمين بتاريخ السينما وتطورها كوسيلة تعبير.

فيلم "لوميير: مغامرة السينما تبدأ" كشف وتحليل علمي، وفرجة بصرية ممتعة، ربما لا تقل أهميته عن أهمية الفيلم الروائي الطويل الذي أنتج قبل سنوات "هيوغو" الذي أرّخ لحياة المخرج الرائد جورج ميليس ساحر السينما العبقري المعاصر للأخوين لوميير.

ونود هنا أن نورد كمثال إضافي على الإمكانيات التعبيرية الكامنة في صلب المادة الوثائقية لأفلام الأخوين لوميير مقارنة بين 3 أفلام تسجيلية. نبدأ من فيلم قصير هو عبارة عن لقطة واحدة طولها أقل من دقيقة، هي في حقيقتها فيلم تسجيلي قصير صامت حققه الأخوان لوميير من ضمن الأفلام الأولى التي صنعاها، وهو فيلم كما سنرى أكثر أهمية بكثير، من حيث موضوعه، من بقية أفلام الأخوين لوميير الأولى (1895)، التي نالت شهرتها كونها العرض العالمي الأول للصور المتحركة مثل فيلم" وصول القطار إلى المحطة" و فيلم" خروج العمال من المصنع" و فيلم" إفطار الطفل"، لأن تلك الأفلام كانت مجرد تسجيل لزمن حدث عادي عابر، أي أنها مجرد لقطات لا تقول إلا ما تُظهر ولا توحي بغير ما تسجل، في حين أن الفيلم موضوع المثال يتجاوز كونه مجرد لقطة ليسجل حالة إنسانية مشبعة بالعاطفة. 

صور الأخوان لوميير لقطة/فيلماً، نرى فيها الأم وهي تسير حانية الظهر وراء الطفلة التي تعلمت، على الأغلب، المشي لتوها، وذلك لتحميها إن سقطت على الأرض فيما هي تندفع مسرعة وبدون تفكير إلى الأمام. في مقدمة الكادر ثمة شيء ما على الأرض، ومن المحتمل أن الطفلة تسعى للحصول عليه. اللقطة مأخوذة من بعيد حيث تقترب فيها الطفلة باتجاه الكاميرا وهي تهرول عبر الممر الذي ينتهي بحافة حادة يوجد تحتها امتداد طريق، لو وقعت الطفلة عندها لأصابها الأذى، لكنها طفلة بريئة لا تعي ذلك فتتابع الهرولة بتهور في حين أن الأم تتبعها ولكن دون أن توقفها. تثير هذه اللقطة أكثر من سؤال، فهل أن الأم قلقة أم هي فرحة وهي ترى طفلتها تمشي، وهل ستقع الطفلة وتصاب بأذى أم ستلتقطها الأم في اللحظة الأخيرة وتنقذها؟ 

هكذا نلاحظ أن هذه اللقطة/الفيلم تتضمن في داخلها الكثير من عناصر الدراما، ففيها الإثارة والترقب والتشويق والمخاطرة والإنقاذ في اللحظة الأخيرة، إضافة إلى الفرجة الممتعة.

من المؤكد أن الأخويين لوميير لم يكونا يدركان في ذلك الحين أنهما يتعاملان مع فن جديد سيتم التعريف بهما فيما بعد على أنهما رائداه، وكان جلّ همهما هو تقديم صور متحركة من الواقع لا أكثر و لا أقل، صور متحركة هي نتاج اختراع تقني تمكنا من إنجازه والاستفادة منه.

ومن المؤكد أنهما تعاملا مع اللقطة التي وردت أعلاه كمثال مثلما تعاملا مع بقية اللقطات الأخرى. أي مجرد تسجيل بالصور المتحركة لواقعة حياتية بسيطة، ولم يدركا في حينه، أو بالأحرى لم يكن بإمكانهما إدراك ما يمكن أن يكون فيها من نواة سردية ودرامية ناهيك عن قيمة فنية جمالية، وهذه النواة وهذه القيمة هي ما بات يدركها ويستعملها أجيال لاحقة من سينمائيين نشأوا في حقب لاحقة من تطور السينما واكتشاف العديد من وسائلها التعبيرية، بدءاً من عشرينيات القرن الماضي وحتى أيامنا هذه.

عدنان مدانات
ناقد وباحث سينمائي أردني