"العوامة 70".. خيري بشارة والواقعية في السينما المصرية

 احتفلت الأوساط السينمائية في مصر مؤخراً باستعادة أفلام المخرج خيري بشارة، وذلك بعد احتفال مهرجان الأفلام في السعودية بخيري بشارة وعرضها بعد ترميم أفلامه وطبع نسخ جديدة منها.

يأتي هذا الاحتفال بعد سنوات من اتهام وُجّه لأفلامه في ثمانينيات القرن الماضي بأنها أفلام "كئيبة" أدت إلى عزوف المتفرّج المصري عن ارتياد صالات السينما. ولم توجّه هذه التهمة فقط لأفلام خيري بشارة، بل أيضاً لأفلام زملائه مثل داوود عبد السيد ومحمد خان وغيرهما من جيل فترة ثمانينيات القرن العشرين. 

لمع اسم خيري بشارة منذ أن صنع فيلمه التسجيلي القصير "صائد الدبابات" (1974)، عن جندي من أبطال حرب أكتوبر، ولم يكتفِ بتقديم صورة بطل من فقراء الناس، بل تتبعه إلى مسقط رأسه في قرية فقيرة محرومة من خدمات الدولة، وكشف عن الفقر الذي يعيش فيه الفلاحون هناك. ومن المفارقات التي حصلت أثناء تصوير الفيلم أن أهالي القرية المحرومين من الكهرباء اعتقدوا بداية أن فريق التصوير جاء ليوصل الكهرباء إلى القرية.

كما اشتهر خيري بشارة بعد ذلك بفيلمه القصير الثاني "طبيب في الأرياف" (1975)، عن طبيب شاب يتبرّع بالعيش في قرية فقيرة ليعالج أهلها، ويكشف المخرج من خلال هذا الطبيب كل الأمراض الاجتماعية والجسدية التي يعاني منها سكان القرى المصرية.

إن هذه الخبرة في التعامل مع الواقع ومشاكله الفعلية الأساسية في السينما التسجيلية انعكست بصورة واضحة على فيلمه الروائي الطويل الثاني "العوامة 70" (1982)، بعد أن تمرّس تماماً.

ينتمي فيلم المخرج خيري بشارة "العوامة 70" إلى ذلك الجيل من الأفلام المصرية الذي نما تدريجياً في ثمانينيات القرن الماضي، وكرّس نفسه كخط واقعي في السينما المصرية يختلف عن السينما التجارية السائدة.

لكن، ليس فيلم "العوامة 70" فيلماً واقعياً فحسب، بل هو في جوهره وفي مادة حكايته وموضوعه يناقش قضية علاقة السينما بالواقع، وعلاقة السينمائي بواقعه، سواء في الحياة أو في الفن. إن "العوامة 70" هو أيضاً عن إمكانية قول الحقيقة في السينما، وهنا، في السينما التسجيلية، تحديداً.

"العوامة 70" هو قبل كل شيء فيلم يحكي عن معاناة مخرج أفلام تسجيلية بشأن مدى الانسجام بين مواقفه في الحياة وفي السينما.

يتم تقديم عناوين الفيلم على خلفية مشهد حوار بين بطل الفيلم، المخرج التسجيلي الشاب (أحمد زكي)، وعمه (كمال الشناوي)، الذي يعيش في المدينة منقطعاً عن جذوره بعد أن تخلّى عن أرضه وجاب العالم بحثاً عن حرية لا التزام فيها.

مع البداية الفعلية لأحداث الفيلم نرى المخرج مع فريق عمله في محلج للقطن بهدف تصوير فيلم عنه. يلفت انتباه المخرج، فيما هو يتقصّى المعلومات ويصوّر بعض اللقطات، وجود عامل يظهر وهو يراقبه من بعيد، ثم يهرب خائفاً من أن يراه مدير المحلج. وفي لحظة تصوير إحدى اللقطات تبرز صورة العامل الخائف من بعيد عبر عدسة الكاميرا.

يغادر فريق التصوير المحلج، وفي الطريق العام يعترض العامل سيارة الفريق ليخبرهم أن في حوزته حقائق خطيرة تتعلق بسرقات كبيرة تتم في المحلج يريد أن يحكي عنها لهم، معتقداً أنهم صحافيون.

هذا العرض هو الأساس الذي ستتمحور حوله أحداث الفيلم وبناؤه الدرامي. يقرّر المخرج أن يعرّف خطيبته الصحافية على هذا العامل كي تكتب هي مقالاً عن هذا الموضوع. إنه يحوّله إليها رغم أنه من المفترض أنه المعني مباشرة بهذا الموضوع. يحدّد المخرج موعداً مع العامل في العوامة التي يسكن فيها مساء اليوم، ويلتقي به برفقة خطيبته. يستمع المخرج وخطيبته إلى العامل المضطرب الخائف وهو يسرد لهما الحقائق حول عمليات الاحتيال والتلاعب التي تمارسها إدارة المحلج. يتفق الثلاثة على إبلاغ النيابة العامة بهذه المعلومات.

عند خروج العامل من العوامة، يقترب منه رجلان في عتمة الليل، يقتلانه ثم يلقيان بجثته في النهر.

هنا يكتسب الحدث والمشكلة إمكانية بعد آخر ومجرى تطوّر آخر. غير أن خيري بشارة، وهو أيضاً كاتب السيناريو، لا يكتفي بأن ينطلق من هذا الحدث نحو موضوع سياسي بوليسي في آن، بل أنه يعتمده أساساً لتفسير شخصية بطل الفيلم، إذ أنه يستغل هذا الحدث ليضع بطله أمام محك أفكاره ومواقفه. فالفيلم يقدّم لنا بطله، المخرج، على أنه يطرح في أفلامه التسجيلية المشاكل الحقيقية، وبجرأة، وإذ به الآن يواجه مشكلة عليه ألا يكتفي بطرحها في فيلم وحسب، بل عليه أن يتعامل معها في الواقع ذاته، بعد أن تطورت إلى جريمة حقيقية، لا يكفي إبلاغ النيابة بها.

بعد خلاف مع خطيبته المصرّة على متابعة القضية، ينهي خيري بشارة فيلمه بمشهد معبّر يحتمل أكثر من تفسير: يخلع المخرج خاتم الخطوبة داخل مكتبه، يتوجّه نحو طاولة نرى عليها كتاباً يصوّره المخرج بلقطة قريبة. الكتاب بعنوان "الحقيقة السينمائية والعين السينمائية" للمخرج التسجيلي السوفياتي دزيغا فيرتوف، وهو مخرج من النصف الأول للقرن العشرين، اشتهر بأفكاره الثورية عن السينما ودورها في كشف حقائق الواقع بصدق.

عدنان مدانات - ناقد وباحث سينمائي أردني