أيها السادة... ننعى إليكم حرية التعبير في بريطانيا

 في بريطانيا، حيث أعرق البرلمانات الديموقراطيّة الأوروبيّة المعاصرة، لا دستور مكتوباً، ولا قانون يماثل التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة الأميركية (1791) الذي يمنع صياغة أي قوانين تحدّ من حريّة التعبير، أو تتعدى على حريّة الصحافة، أو تتدخل في حق التجمّع السلمي، أو تمنع تقديم التماس للحكومة للحصول على الإنصاف من المظالم، ولو على صعيد النظريّة المحض. 

ولذلك، فإنّ الصحافة البريطانية لم تكن يوماً حرّة، أو معنية بقضايا الحريّة وحقوق الإنسان إلا عندما يتوافق ذلك مع مصالح الإمبراطورية. 

مع ذلك، تذوّق سكان المملكة المتحدة نوعاً مستجداً فضفاضاً من حريّة التعبير مع تخلّي السلطات عن النظام الأبوي للرقابة منذ نهاية ستينيات القرن الماضي على إثر ثورات الطلاب عبر العالم، فأصبح ممكناً في يوم وليلة التجديف على الأرباب، والعيب في السلالة الملكيّة الحاكمة، ونشر الصور العارية من دون مواجهة عقوبات قانونية. 

وهكذا عندما صدرت فتوى الإمام الخميني، المرشد الإيراني، ضد سلمان رشدي بسبب «الآيات الشيطانية» في عام 1989، تنطّحت مارغريت تاتشر، رئيسة الوزراء حينذاك، لحماية رشدي على حساب أموال دافعي الضرائب، بحجة أن هذه المملكة واحة لحرية التعبير، ولن تخضع لجهات أجنبية تريد فرض أي شكل من أشكال الرقابة على المحتوى. 

على أن هذه الحريّة الهلاميّة المزعومة سقطت في الاختبار مع تورّط السلطات البريطانية في ملاحقة ومحاصرة واعتقال جوليان أسانج، الصحافي وناشر موقع ويكيليكس الذي نشر فضائح إجرام النخبة الحاكمة في واشنطن، قبل أن ينجو من الموت في سجون جلالة الملك عبر اتفاق صلح مع السلطات الأميركية نفسها.

جادل كثيرون من المعجبين بتفرّد السيّد الأبيض بأنّ أسانج لم يكن صحافياً بالمعنى المألوف، وأن الحكومة البريطانية كانت مجبرة ــ حين اعتقلته وكانت تعد بتسليمه إلى جلاديه ـــ على الإيفاء بالتزاماتها وفقاً للقانون الدولي وللمعاهدات بين الدول، 

رغم أنّ منظمة «مراسلون بلا حدود»، ذات الهوى الغربي، تصنّف بريطانيا في المستوى 24 في العالم لناحية حريّة الصحافة، وطالبت بإطلاق سراح أسانج مرات عدة.

على أن حكاية مؤسّس ويكيليكس لم تكن الأخيرة، ولا الاستثناء. في العام الماضي، اعتقلت السلطات ــ بموجب قوانين مكافحة الإرهاب ــ كيت كلارنبرغ، الصحافي في موقع «غراي زون» الذي يقدم فضاء بديلاً لآراء لا تنشرها وسائل الإعلام الغربيّة. ثم احتجزت كريغ موراي، الديبلوماسي البريطاني السابق الذي يكتب عن انتهاكات حكومة جلالة الملك للقانون الدولي. 

وقبل أيّام اعتقلت من صالة الوصول في مطار هيثرو ريتشارد ميدهيرست، الصحافي المستقل والشخصيّة المعروفة على يوتيوب (الأخبار 22/8/2024)، بسبب آرائه المناهضة للإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. 

وصباح الخميس الماضي، اعتقلت الصحافية المستقلة سارة ويلكنسون من منزلها من قبل 12من ضباط شرطة محاربة الإرهاب بسبب «محتوى نشرته على الإنترنت»، كما صودرت أجهزتها الإلكترونية قبل إطلاق سراحها لاحقاً. 

ويبدو أن ميدهيرست وويلكنسون قد ألقي القبض عليهما بموجب المادة 12 سيّئة السمعة من قانون مكافحة الإرهاب في المملكة المتحدة لعام 2000، التي توظَّف بصلافة ضد منتقدي الدولة العبرية وحرب الإبادة التي تشنّها في قطاع غزّة منذ 11 شهراً تقريباً، 

في تجاهل تام للقانون الدولي (القرار 2222 الصادر عن مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة عام 2015) الذي «يدين بشكل قاطع جميع الهجمات والعنف ضد الصحافيين والعاملين في وسائط الإعلام، مثل التعذيب، والقتل خارج نطاق القضاء، والاختفاء القسري، والاعتقال التعسّفي، والاحتجاز التعسّفي، 

فضلاً عن التخويف والمضايقة في كل حالات النزاع وغير النزاع، ويدعو الدول إلى أن تهيّئ، في القانون والممارسة، بيئة آمنة تمكّن الصحافيين من أداء عملهم بشكل مستقل ومن دون تدخّل لا مبرر له».

مع انطلاق عامهم الدراسي، سيشهد طلاب الجامعات البريطانية الإجراءات الرسميّة العلنية لدفن خرافة النسخة البريطانية من حرية التعبير نهائياً،

 إذ أعلنت حكومة «حزب العمل» اليمينية عزمها على إلغاء القوانين التي تفرض على الجامعات واتحادات الطلاب حماية حرية التعبير والبحث الأكاديمي، استباقاً لعودة الأنشطة الطلابيّة المناهضة لحرب الإبادة الصهيونية مع استئناف الدراسة. 

البريطانيون ليسوا حمقى بالمطلق، وكثيرون منهم يدركون جيداً أنهم يعيشون في طابق من حريّات موهومة، لكنّ التعساء هم عبيد السيد الأبيض عندنا الذين يغرقون في شبر ماء من الأيديولوجيا الليبرالية، ويدعمون الانتقال إلى الديموقراطية الزائفة ولو جاءت على دبابات شيرمان البريطانية.

سعيد محمد