من فيتنام إلى غزة... حين يصبح الإعلام في خدمة القاتل

 يعود نقاش مصداقية الإعلام في كل حدث ضخم، فالحرب على قطاع غزة فضحت انحياز الإعلام الغربي التام للرواية الإسرائيلية. 

لكنّ تواطؤ الإعلام، خصوصاً المؤسسات الكبرى، عُمره من هذه المؤسسات. هناك من يقول إنّ الإعلام رسالة، تهدف إلى إيصال الحقيقة.

 لكنّه فعلياً لا يقدم أي حقيقة للناس، فإن لم يكذب، في أفضل سيناريو، سيعطي جزءاً من الحقيقة، لاعتبارات تبدأ بسياسات المؤسسة وتمويلها، ولا تنتهي بموقف الصحافي نفسه، وارتباطاته، في ما يتعارف على تسميته بالأجندات. 

التعمية على كل الخبر، والجنوح نحو تحويره، يتحوّل إلى كارثة، يوم يؤدي تواطؤ الإعلام إلى موت مئات الآلاف. 

بعد القتل، يأتي الإنكار، بغطاء وتواطؤ إعلاميين. هذا ما نشاهده في غزة، وما شاهدناه مثلاً في رواندا التي شهدت إحدى أشهر المذابح في العالم، التي ذهب ضحيتها أكثر من 800 ألف من شعوب التوتسي والهوتو في غضون 100 يوم.
 
الانقسام بين التوتسي والهوتو، تفاقم على مدى عقود بفعل الاستعمار الألماني، وتوسّع بعد الاستقلال. في أواخر الثمانينيات، شكّل التوتسي المنفيون «الجبهة الوطنية الرواندية» وغزا ذراعها العسكري شمال رواندا في أواخر عام 1990 

وبدأت حملة تمرّد استمرت أربع سنوات ترافقت مع حملة تحريض إعلامية، انتهت بإدانة المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، لثلاثة صحافيين، شاركوا في عملية التحريض، اثنان منهم عملا في شركة التلفزيون والراديو «ميل كولين» وواحد لصحيفة «كانجورا».

 لدى إعلان قرار المحكمة بإدانتهم، قالت القاضية في المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا نافي بيلاي، للصحافيين المدانين: «كنتم مدركين تماماً لقوة الكلمات، واستخدمتم وسائل الإعلام ذات الوصول الأوسع لنشر الكراهية والعنف... من دون سلاح ناري أو سكين أو أي سلاح مادي، تسبّبتم في مقتل الآلاف من المدنيين الأبرياء».

يوليوس شترايشر، رجل الدعاية النازية، وصف نفسه بـ «الرسول المعين من القدر» لمعاداة السامية. كان يقول إنّه عندما التقى للمرة الأولى بهتلر، تخيّله بهالة تحيط برأسه. وقد ردّد هذه الأقاويل خلال محاكمته، إلى جانب القادة النازيين في مدينة نورنبرغ في ألمانيا.

 وبينما كان القضاة يستمعون إليه بتعجّب، جلس زملاؤه المتّهمون بصمت محرج. دفن قائد القوات الجوية الألمانية هيرمان فيلهلم غورينغ، رأسه بين يديه كما لو كان مريضاً، بينما هز الأدميرال السابق كارل دونيتس رأسه. وحده وزير الداخلية السابق فيلهلم فريك اعتقد بأنّ شتايشر قد تحدث بشكل جيد.

إلى جانب الضرر الذي تسبّبت فيه أقوال شترايشر على المحاكمة، كانت إدانته بسبب كتاباته في صحيفته السابقة Der Sturmer (العاصفة)، التي نُشرت فيها آراؤه المعادية لليهود طوال 12 عاماً من الرايخ الثالث، وقُرئت وأقرّت من قبل هتلر نفسه. 

كانت الصحيفة تنشر رسومات كاريكاتورية معادية لليهود بشكل فظ وواضح، وصوراً ومقالات اعتبرت منذ ذلك الحين قاع الدعاية النازية المعادية للسامية. 

وكانت أساس الكراهية التي رأى القضاة في المحكمة العسكرية الدولية لاحقاً أنها وراء عمليات القتل بالغاز بين 1941و 1945. مع ذلك، وصف الإعلام العالمي يوليوس شتايشر بـ «الكاهن الأعلى للغباء». 

لكن شترايشر لم ينكر أفعاله، ولم يحاول تبرئة نفسه، فوقف في قفص الاتهام أمام مدّعيه، وقبِل بفخر المسؤولية الكاملة عن كل ما ظهر في صفحات Der Sturmer، بما في ذلك الأعداد الخاصة التي كانت مخصّصة بالكامل لجرائم القتل.

بمثل هذه الخفة، يتعامل الإعلام الغربي مع الإبادة في قطاع غزة اليوم، فيخفي حقائق، ويتبنّى روايات خطأ أو محرّفة من جهة، ويبرّر للاحتلال أفعاله من جهة أخرى، باعتبار أنّ لإسرائيل «الحق في الدفاع عن نفسها».

 هذا ما يردده الإعلام الغربي، وهذه إحدى ركائز الانتخابات الأميركية بشقيها الديموقراطي والجمهوري.

كانت كذبة اغتصاب نساء إسرائيليات، وقطع رأس 40 طفلاً إسرائيلياً، مبرّراً لآلة القتل الإسرائيلية، وفي 18 تشرين الثاني (نوفمبر)، نشرت قناة «سي. أن. أن» الأميركية تقريراً عن شهادات عنف جنسي في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، ليتبين لاحقاً بأنها كاذبة.

وخلال الحرب الأميركية على فيتنام، لم يهتم الإعلام إلا بعد إرسال أعداد كبيرة من القوات المسلحة إلى هناك، عام 1965، ليصل عدد الصحافيين المعتمدين مع قبل وكالات الأنباء الأميركية وشبكات الإذاعة والتلفزيون والصحف والمجلات الإخبارية الكبرى إلى 600 صحافي. تُصنَّف حرب فيتنام كـ «أول حرب تلفزيونية»، 

وكانت أفلام الفيديو تنقل جواً، من فيتنام إلى طوكيو لتحريرها، ثم تنقل إلى الولايات المتحدة الأميركية. أما القصص المهمة، فكانت تنقل عبر الأقمار الاصطناعية من طوكيو.

شابت هذه التغطية شوائب عدة، حيث كانت القصص تصوّر بعد انتهاء المعارك، وليس في خضمها، وكانت بغالبيتها تقليدية، فيما معظم القصص عن الحرب في البرامج الإخبارية التلفزيونية المسائية، عبارة عن تقارير موجزة تستند إلى ما ترسله وكالات الأنباء، ليقرأها المذيعون. 

في فيتنام، لعب الإعلام دوراً في خسارة الولايات المتحدة في الحرب، خصوصاً بعد عام 1968. 

إلا أن التقييم الذي أجراه والتر كرونكايت، مذيع أخبار «سي. بي. إس» المسائية، والمعروف باسم «الرجل الأكثر ثقة في أميركا»، في شباط (فبراير) 1968، وصف الحرب بـ «الغرق في طريق مسدود». 

كما انتقد الصحافيين بعد ذهابه إلى فيتنام، وكتب في مذكراته أنهم كانوا يتسابقون على مَن هو الأكثر سخرية. 

لكنّ لمذبحة «ماي لاي» وقعاً خاصّاً على الأميركيين، حين ذبح جنود أميركيون قرابة 500 شخص، من المدنيين الفيتناميين، 

وانتشرت صور المجزرة في أنحاء العالم. حاول الإعلام إخفاء حقيقة ما جرى، ما انعكس ضعفاً في ثقة الجمهور بالإعلام الأميركي، 

ولجأت مجلة «ستارز آند سترايبس»، الصادرة عن القوات المسلحة الأميركية، إلى خلق شخصيات خيالية في آذار (مارس) 1968، زاعمةً بأن جنود المشاة الأميركيين قتلوا 128 شيوعياً في معركة دامية استمرت يوماً كاملاً. 

وبعد عام، اكتُشف أنّ الخبر كاذب، وزادت نقمة الأميركيين من كثرة مشاهد القتل في فيتنام، وأيقنوا أنّ هذه الحرب لا يمكن كسبها.
 
غالباً ما يتسلح الإعلام بفكرة «حرية التعبير»، لتبرير تلاعبه بالحقيقة ونشره الأكاذيب. في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تتضمن حرية «استقاء الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأي وسيلة ودونما اعتبار للحدود».

 في مقال له على موقع Mondoweiss، أشار المدير التنفيذي لمكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في نيويورك، ومقرر الأمم المتحدة الخاص السابق حول حقوق الإنسان كريغ مخيبر، إلى «دور شركات الإعلام الغربية المتواطئة في نشر المعلومات المضللة والدعاية الإسرائيلية، وتبرير جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، وحجب المعلومات عن الإبادة الجماعية في الغرب. 

من منظور قانون حقوق الإنسان الدولي، يمكن ويجب أن تخضع هذه الأفعال للعقوبات. وهناك سوابق تاريخية لذلك».

 ولفت إلى أن الإعلان العالمي لحقوق الانسان، شدّد على أنّ حرية التعبير لا تمنح شركات الإعلام أو أي شخص آخر حقّاً بـ «الانخراط في أي نشاط أو القيام بأي عمل يهدف إلى تدمير أي من الحقوق والحريات الأخرى». 

والأهمّ بحسب مخيبر، الالتزام بالمعايير الصحافية الدولية، بما في ذلك التزام الإعلام بالتقارير الدقيقة غير المنحازة، وهو التزام دولي، لا يمكن التخلّي عنه. 

يضمن قانون حقوق الإنسان الدولي حرية الصحافة، ولكنه لا يعفي الصحافيين أو شركات الإعلام من المسؤولية عن التحريض على العنف أو التواطؤ في الجرائم الدولية.

علاوة على ذلك، فإنّ مبدأ «مسؤولية حماية»، الذي التزمت به جميع الدول أعضاء الأمم المتحدة، يُقر بأنّ «على المجتمع الدولي مسؤولية استخدام الوسائل الديبلوماسية والإنسانية وغيرها من الوسائل السلمية المناسبة» لحماية السكان من الإبادة الجماعية.

كانت الحكومات تستخدم الصحافيين خلال الحروب، لرفع معنويات المواطنين، ولو تسبّبت في موت الآلاف. النازيون حكموا، والمسؤولون عن التحريض في رواندا حوكموا، والإعلام الأميركي خسر بسبب كذبه في فيتنام، 

لكن في غزة، حتى اليوم، لم يجرؤ أحد على المطالبة بمحاكمة جدية للصحافيين ووسائل الإعلام الذين تسبّبوا في مجازر، فالفظاعة هنا ليست فقط بممارسة القتل، بل بمعرفته، والتغاضي عنه، وحتى تبريره.

غادة حداد