لا حياد في الحروب الأهلية

 

في الأمس جاءني خبر أن أحد أبناء قريتي قتل في نهم، وقبل يومين تماما، كان هناك خبر مماثل عن أحد جيراني، وهكذا ستكون منطقتي قد قدمت ثلاثة قتلى في أقل من شهر؛ أحدهم كان يقاتل إلى جانب الحوثيين، واثنان إلى جانب المقاومة والجيش الوطني.

عندما وصلني الخبر، تذكرت رواية الدون الهادئ، الرواية التي تؤرخ للحرب الأهلية التي عاشتها روسيا في مطلع القرن العشرين؛ أبناء القرية الواحدة ينقسمون إلى قسمين، قسم يقاتل مع هذا الطرف وقسم مع ذاك، ويحدث أن يلتقي أبناء القرية نفسها في المعركة، ويقتل أحدهم الآخر.

هذي هي عادة الحروب الأهلية.

ونحن نعيش حربا أهلية بكل ما تعنيه الكلمة. وإن كنا لم نستوعب ذلك بعد، فإن المؤرخ، بعد عشر سنوات من الآن، عندما يفكر بتدوين ما يجري في الوقت الحالي، لن يجد وصفا أكثر دقة من الحرب الأهلية.

والحروب الأهلية، على الدوام، تشمل الجميع دون استثناء، حتى أولئك الذين يعتقدون أنها حرب لا تخصهم، ويحاولون النأي بأنفسهم بناء على ذلك الوهم. هؤلاء سيدفعون الثمن بدورهم، عاجلا أم آجلا. وحينها سيكتشفون الخطأ الشنيع الذي كان ينطوي عليه موقفهم، وسيدركون أنهم لم يفعلوا بصمتهم شيئا، سوى أنهم تركوا النار تشتعل حتى وصلت إليهم.

ماذا تعني الحرب الاهلية؟ تعني أن هناك جزء من الشعب قد بغى على جزأه الآخر واضطره للقتال، ذلك لأنه يستحيل أن يكون الطرفان قد قررا الحرب هكذا، لمجرد التسلية. لا بد إذن أن يكون هناك طرف باغ، وفي هذه الحالة يكون الصمت جريمة.

 

لكن الصمت إلى جانب كونه جريمة عند الحرب الأهلية، هو أيضًا حماقة وسوء تقدير. لأن واحدة من اكثر صفات الحروب الأهلية ثباتا، أنها لا يمكن أن تنتهي حتى تكوي الجميع بشرّها. وهذا الأمر يبدو كما لو أن العناية الإلهية هي التي تتصرف به، بحيث لا تكون الخسارة من نصيب طرف دون آخر، في حرب هي في الأساس حرب الأمة كلها. وهكذا، فإن كل من صمت وتقاعس عن واجبه في حالة كهذه، سيكتشف في يوم ما مدى غباءه وحمقه، لقد ترك الخطر يزحف إليه وهو مكتوف اليدين، بينما كان بإمكانه أن يبادر ويفعل شيء، قبل أن يكبر الشر ويستفحل، ويصبح من الصعب السيطرة عليه.

لدي يقين راسخ، بأن هذه الحرب لن تنتهي. أو بعبارة أدق، لا يمكن أن تنتهي، في ظل الوضع القائم. لاحظوا أن هناك شريحة كبيرة من المجتمع، لا تزال تعتقد أن الحرب بين طرفين محددين، هما الحوثي والشرعية، أو ما يسمى بالشرعية، وأن هذين الطرفين لا يمثلان بالضرورة مصالح الشعب ومصيره. هذه الحقيقة تعني أنه لا يزال أمام الحرب الكثير مما يجب عليها أن تفعله، حتى تصبح الظروف ملائمة لانتهائها.

لا يمكن أن تنتهي الحرب، حتى يدرك كل اليمنيين، أنها حربهم جميعا, وأن المعركة تتعلق بوجودهم، وأن البقاء في موقف المتفرج أو المحايد، يعني المخاطرة بمصيرهم ومصالحهم، وفوق ذلك، بوجودهم كله. عند ذلك سيفعل اليمنيون ما يجب عليهم فعله، وستنتهي الحرب.

نعود إلى رواية الدون الهادئ، ذلك العمل العظيم الذي حصل على جائزة نوبل في العام 1965. هذه الرواية تبدو، في مجملها، كما لو أنها أهجية للمواقف المتذبذبة، أو اللاموقف، أو دعونا نطلق عليه تجاوزا "الحياد" ، نعم، تبدو كما لو أنها أهجية للحياد، وخصوصا عندما نكون أمام قضية خطيرة كالحرب الأهلية. بطل الرواية هو شخص ليس له موقف محدد، يحس تجاه كل طرف بالنفور وبالقرب معا. وهكذا؛ يقاتل في البداية إلى جانب الجيش الأحمر، لكن عندما وصل هذا الجيش إلى قريته، تبدل موقفه وانتقل الى جانب الطرف الآخر، وقاتل الى جانب هذا الطرف لسنوات، وحتى تبين أن الهزيمة لا بد منها، وأن الإنتصار سيكون من نصيب الحمر، انتقل لهم، لكن بعد فوات الأوان. وهو لم يفعل ذلك لدوافع انتهازية، وانما عن قناعة، لأن كل الأطراف كانت تبدو له مثل بعضها، ومتساوية في محاسنها ومساوئها على السواء. وهكذا ينتهي به الأمر إلى مصير مأساوي، وغير طبيعي. فمن الطبيعي هنا، أن يموت بشرف في ميدان القتال، أو أن يحرز حياة هادئة، لكنه لا يحقق لا هذا ولا ذاك، فهو في البداية يخسر أخيه وأبيه وأمه وزوجته وطفله، ثم بعد ذلك يخسر حبيبته، ثم في آخر الأمر، ينتهي به الحال الى متشرد على ظهر حصانه، مطارد من قبل الجميع، ولا يعرف إلى أين يذهب.

النهاية المأساوية لهذا البطل، تشير إلى أن الحياد منطقة قذرة، وأنه ما لم يكن لنا موقف محدد وصارم تجاه القضايا الكبرى، فلن يترتب على ذلك إلا مزيد من الخسائر.