الانتخابات في فرنسا: ماكرون يضع البلاد على حافة الهاوية

الرأي الثالث – وكالات

شكّلت نتيجة الانتخابات الأوروبية ضربة جديدة لموقع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي لجأ إلى خيار الدعوة إلى الانتخابات في فرنسا خصوصاً أن الهزيمة في الانتخابات الأوروبية كانت شديدة بالنسبة للمعسكر الرئاسي، الذي حصل بالكاد على 15% من الأصوات، وهو مستوى منخفض تاريخياً بالنسبة لحزب النهضة. وأدت النتيجة إلى إضعاف ماكرون أكثر مما هو عليه في ولايته الثانية، التي بدأها عام 2022 وهو لا يمتلك فيها أكثرية برلمانية، 

وقد ظهر في أكثر من مناسبة سابقة يعاني صعوبة الاستمرار في هذا العجز، ولم يبقَ أمامه سوى أحد طريقين، إما الاستقالة، أو الاستمرار بولاية رئاسية عرجاء تفتقر إلى التوازن السياسي.

لجأ ماكرون إلى خيار غير متوقع، وصفه البعض بأنه انتحاري، من أجل تحريك البركة السياسية الراكدة، فحلّ البرلمان، ودعا إلى إجراء الانتخابات في فرنسا ليحدث صدمة كبيرة للأوساط كافة، ويفتح مخرجاً من حالة الجمود الذي اتسمت به ولايته الثانية، بسبب عدم حصوله على أكثرية برلمانية تؤهله للحكم بارتياح، ما اضطره لأن يناور مدة عامين اعتماداً على السلطة التنفيذية، ويتعكز على قوانين استثنائية لا تحظى بشعبية، من أجل تمرير بعض مشاريع القوانين، مثل إصلاح التقاعد الذي أثار جدلاً واسعاً، وردود فعل رافضة من طرف النقابات العمالية، وأحزاب المعارضة، والفئات الاجتماعية ذات الدخل المحدود.
 
رسالة الدعوة إلى الانتخابات في فرنسا

أراد ماكرون من خطوة حل البرلمان والدعوة إلى الانتخابات في فرنسا أن يُظهر للفرنسيين أنه التقط الرسالة الاحتجاجية على حكمه من وراء التصويت بكثافة لليمين المتطرف، وينذرهم في الوقت نفسه بأن "التجمع الوطني"، حزب مارين لوبان، بات على أبواب السلطة، وهذا ليس في مصلحة البلد.

وأعرب مقربون من ماكرون عن طموحه إلى انتخاب برلمان جديد له مواصفات مختلفة، بأن يكون أكثر انسجاماً وأقل تنافراً من سابقه، الذي يتشكّل من جزر لا تلتقي على قواسم سياسية مشتركة، ولا يمتلك أحدها سلطة لتمرير مشروع قانون، وليست لديه القابلية للتفاهم مع كتلة برلمانية أخرى، بسبب حدة الانقسام السياسي بين الكتل الرئيسية. 

وكان هذا الأمر جعل من إقرار ميزانية الدولة، أو أي قوانين جديدة، عملية شاقة، تدفع الحكومة للجوء إلى بند دستوري يسمح لها بتمرير القرارات من دون نقاشها في البرلمان، ولكنها تسمح للمعارضة بطلب التصويت على الثقة في الحكومة، وهي طريقة لا يمكن الاستمرار في استخدامها طوال الوقت.
 
يراهن ماكرون عبر إجراء الانتخابات في فرنسا على تشكيل كتلة كبيرة برلمانية قادرة على تمرير مشاريع القرارات من دون صعوبة، ولديها القدرة على تأليف حكومة، تقود البلد على عكس ما هو عليه الحال، حين كانت الحكومة الحالية، وتلك التي سبقتها، مشكّلتين من قبل رئيس الدولة الذي لا يحظى بأكثرية برلمانية.

رسالة تحذير سياسية

ثمة رسالة تحذير سياسية، أراد ماكرون توجيهها إلى المجتمع والطبقة السياسية، مفادها أن اليمين المتطرف بات على مسافة قصيرة جداً من مؤسسات الحكم، ويمكن له أن يترجم انتصاره الانتخابي الأوروبي في الاستحقاقات الانتخابية الداخلية. 

وفي حال استمرار الوضع على ما هو عليه، فمن المرجح أن يحقق اليمين المتطرف تقدماً على مستويين، ليحتل رئاسة الدولة والحكومة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية عام 2027. 

وما أراده ماكرون هو أن يقطع الطريق على هذا الاحتمال، من خلال خلط الأوراق، عن طريق إحداث مفاجأة حل البرلمان والذهاب إلى الانتخابات في فرنسا وهو بذلك يلعب ورقة بناء حاجز في طريق تقدّم هذا الحزب وأنصاره.

جرّب ماكرون ما سبق لرؤساء فرنسيين سابقين أن قاموا به، حينما وجدوا أنفسهم أمام طريق مسدود لإكمال فترتهم الرئاسية بارتياح. 

وهو ما حدث بالفعل في الماضي مع فرانسوا ميتران ورئيس وزرائه جاك شيراك (1986-1988) وجاك شيراك عام 1997، عندما غامر بحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة أملاً في زيادة أغلبية اليمين الديغولي. 

ولكن الرياح جاءت بما لا يشتهي، وفاز الحزب الاشتراكي، وأجبر شيراك لمدة خمس سنوات على التعايش مع حكومة اشتراكية بزعامة ليونيل جوسبان. ومن بين الاحتمالات الراجحة، أن يواجه ماكرون وضعاً من هذا القبيل، ويضطر إلى التعايش مع حكومة من اتجاه آخر.

حتى الآن يلعب ماكرون ورقة المواجهة مع اليمين المتطرف، ويركز على عنصر الخوف، وتصوير "التجمع الوطني" عاملَ توتر ومقوضاً للاستقرار، وهذا يؤثر على الاقتصاد والسلم الاجتماعي. 

فهذا الحزب محافظ، وهذا يعني أنه يتحفظ على حرية المرأة، التي يرى في عودتها إلى البيت حلاً لأزمة البطالة، كما أنه ضد المثلية والحريات الشخصية، إضافة إلى أنه عدو للأجانب. 

وذلك سيقود إلى التصعيد مع أوساط الهجرة والمسلمين، ويمكن أن يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية واسعة، لأنه يبحث عن حلول للأزمات من خارج القيم الجمهورية على حد تعبيره.

وصرح ماكرون بأن اليمين المتطرف ليست لديه خبرة في العمل الحكومي، وإذا وصل إلى رئاسة الوزارة، يمكن أن يقود البلد إلى كوارث. 

وفي خطاب مبررات حل البرلمان والدعوة إلى الانتخابات في فرنسا توجه ماكرون إلى فئات اجتماعية واسعة، تتراوح بين الطبقة الوسطى وتلك التي باتت على حد الفقر. 

وركز على مسألة أن الاستحقاق الانتخابي الأوروبي مختلف كلياً عن الانتخابات في فرنسا لأن الثاني يقود إلى تسليم شؤون البلد إلى اتجاه سياسي يتصف بالتطرف، ولا يجيد ممارسة العمل الحكومي، ما يعرّض أمن وشؤون حياة الناس اليومية للمجهول.
 

 فهو وصل إلى الرئاسة باستخدام الحزب الاشتراكي عام 2017، ويعود الفضل في ذلك إلى الرئيس السابق فرانسوا هولاند الذي جاء به من مصرفي يعمل لدى بنك روتشيلد وعيّنه نائب مدير مكتب الرئاسة، ثم وزيراً للاقتصاد بين 2014 و2016 حتى ترشح للرئاسة باستخدام آلة الحزب الاشتراكي الانتخابية، الذي كان عضواً فيه بين 2006 و2009.

وبعد أن وصل إلى هدفه، ركبه الغرور وتخلى عن الحزب، وباشر بتكوين تياره الخاص الليبرالي حزب إلى الأمام، وذلك بتقديم إغراءات لأفضل الكوادر في الحزبين التقليديين: "الاشتراكي" و"الجمهوريين"، وبذلك أدى إلى تكسيرهما، لكنه لم ينجح في تشكيل تيار سياسي، بل جهاز حكم من التكنوقراط على غرار حكومته الحالية، التي تضم خليطاً من الاشتراكيين والجمهوريين السابقين.

وها هو يعيد نفس الكرّة الآن وهو يتوجه لخوض الانتخابات التشريعية المقبلة، ولكن تبكير الانتخابات في فرنسا خلق حالة فرز بين المعسكرات، ولذلك لن يكون الطرف المنافس الوحيد لماكرون "التجمع الوطني"، بل ستلعب "الجبهة الشعبية" الدور الرئيسي في التنافس مع اليمين المتطرف بعد أن حسمت أمرها وتحالفت قواها الأربع، ووزعت الدوائر الانتخابية بين بعضها،

ليأتي في المقدمة حزب فرنسا الأبية في 229 دائرة، يليه الحزب الاشتراكي في 175 دائرة، ومن ثم حزب الخضر 92 دائرة، والحزب الشيوعي في 50 دائرة. وتراهن "الجبهة الشعبية" على الحصول على أكثرية تؤهلها لتشكيل حكومة التعايش المقبلة مع ماكرون.

وحسب ما هو ظاهر حتى الآن، فهي لن تتحالف مع تيار ماكرون، وستخوض الانتخابات في فرنسا منفردة. ومن غير الواضح إن كانت ستتحالف معه تحت قبلة البرلمان لاحقاً، وهذا متروك للوزن النيابي لكل منهما. 

غير أن ترشيح هولاند نفسه للنيابة، يمكن أن يخلط الأوراق، وثمة تقديرات تفيد بأنه يضع نصب عينه منصب رئيس الوزراء، في حال تشكل تحالف بين "الجبهة الشعبية" وماكرون.

على الجهة المقابلة، يتصدر "التجمع الوطني" الواجهة، وحتى ينفي عن نفسه شبهة العنصرية، تخلى عن كل تقارب مع حزب الاسترداد الذي يتزعمه العنصري إريك زيمور، وقد وجهت له لوبان ضربة قاضية عندما سحبت ابنة شقيقتها ماريون مارشال، التي ترأست لائحة حزبه في الانتخابات الأوروبية، وخرج معها ثلاثة نواب أوروبيين آخرين.

ومع احتراق ورقة زيمور، تحالفت لوبان مع تيار إريك سيوتي، رئيس حزب الجمهوريين، ما أدى إلى خلق أزمة داخل "الجمهوريين"، وصلت إلى القضاء الذي حكم ببقاء سيوتي رئيساً.

يبدو التنافس شديداً بين الأطراف الثلاثة. وحسب استطلاع رأي بشأن الانتخابات في فرنسا يأتي "التجمع الوطني" في الصدارة بنسبة 32%، يليه "الجبهة الشعبية" بنسبة 25%، ومن ثم تيار ماكرون بنسبة 19%، وحزب الجمهوريين بنسبة 9%.

في حال حصول مفاجأة تقود "التجمع الوطني" وحلفاءه إلى أكثرية نيابية، فإن ذلك سوف يؤهله لتشكيل حكومة. وبذلك تكون الأعوام الثلاثة المتبقية من ولاية ماكرون مرحلة من التعايش، سبق لفرنسا أن جربتها بين ميتران في الرئاسة وشيراك في رئاسة الوزارة (1986-1988)، وبين شيراك في رئاسة الدولة وليونيل جوسبان في رئاسة الحكومة (1997-2002)، وقد اتسمت الفترتان بالتناحر والنزاع وتعطيل العمل الحكومي. ومن غير المستبعد أن يتكرر السيناريو نفسه بين ماكرون ومرشح لوبان لرئاسة الحكومة جوردان بارديلا، الذي يفتقر إلى التجربة ولا يتمتع بمؤهلات علمية تجعله يتفادى فخاخ ماكرون.

ولذلك من المتوقع أن تكون سنوات التعايش مرحلة من الارتجال والارتباك والأخطاء خلال مرحلة تولي اليمين للسلطة، ما سيؤدي حتماً إلى تفاقم الوضع الاقتصادي والسياسي في فرنسا، ويلحق الأذى بصورتها على المستوى الدولي. وفي حال تأزم الوضع، ثمة من يرى أن ماكرون يمكن له أن يلعب آخر ورقة بيده، ويلجأ إلى تقديم استقالته من رئاسة الدولة، كي يترشح لولاية رئاسية جديدة.