عدوى اليمين تصل إلى ألمانيا: خسارات «الوسط» تتكاثر

الرأي الثالث  -   الأخبار

تعمّقت متاعب حكومة ائتلاف أحزاب الوسط الليبرالية التي يقودها المستشار الألماني، أولاف شولتس، بعدما قدّم مرشحو حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني و»تحالف زاهرا فاغنكنيخت» اليساري، الأحد الماضي، أداءً قويّاً في الانتخابات المحلية لولايتَي ساكسونيا وتورينجيا - اللتين تقعان ضمن ما كان يعرف بجمهورية ألمانيا الشرقية -، 

على حساب أحزاب الثلاثي الحاكم (الديموقراطيون الاجتماعيون، الخضر والليبراليون)، فيما نجا أكبر أحزاب المعارضة، «الاتحاد الديموقراطي المسيحي» (يمين الوسط)، نسبياً، من الإذلال، كونه يُعدّ بالنسبة إلى بعض الناخبين أهون الشرَّين في مواجهة «البديل من أجل ألمانيا». 

وفيما وصف شولتس النتائج بأنها «مريرة» و»مثيرة للقلق»، يُرتقب أن تجرى الانتخابات في ولاية ثالثة، في الـ 22 من أيلول الجاري، حيث يعتقد أيضاً بأن تؤدي إلى هزيمة مماثلة للأحزاب الحاكمة.

ويعكس تفرّق الناخبين الألمان عن الوسط السياسي عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي تسبّبت به سياسات ائتلاف أحزاب يسار الوسط الليبرالي الحاكم، وفقدان أغلبية الطبقة العاملة الثقة بالنخبة السياسية، على اختلاف ألوانها. 

ولعلّ النقلة الخاطئة التي أقدمت عليها النخبة الحاكمة في برلين، وأوصلتها إلى هذه النقطة، كانت التحاقها الذيلي بالولايات المتحدة في حرب أوكرانيا، وقبولها التخلّي عن ميزة الوصول الاستراتيجي إلى مصادر الطاقة الرخيصة من الجار الروسي، والتي شكّلت سرّ عودة ألمانيا المعاصرة إلى الازدهار بعد كساد السبعينيات. 

وتسبّبت حرب أوكرانيا في انهيار الإنتاج الصناعي الألماني المتفوّق، بعدما تراجعت مبيعات القطاعات الرئيسيّة (السيارات، المواد الكيميائية والهندسة الميكانيكية)، وتسابقت الشركات الكبرى على إغلاق مصانعها في البلاد، بسبب ارتفاع التكاليف وفقدانها القدرة على المنافسة مع العمالقة: الصين والولايات المتحدة. 

وانعكس ذلك ارتفاعاً في نسب البطالة، وتراجعاً في مستويات المعيشة، وانفلاتاً اجتماعياً، وحروباً ثقافية بين الألمان أنفسهم (شرق وغرب) وضدّ المهاجرين،

 فضلاً عن تراكم انهيار البنية التحتية والخدمات العامة بعد عقود من برامج التقشّف والخصخصة، واقتراب شبح حرب نووية مع روسيا. 

واقتصر دور حكومة شولتس في كل ما يجري على توجيه مئات المليارات من الأموال العامة إلى محرقة الحرب في أوكرانيا، ولدعم الكيان الإسرائيلي،

 فضلاً عن استثمارها في خطّة لإعادة تسليح الجيش الألماني كقوة هجومية، ومارست أبشع أشكال الاضطهاد السياسي والفكري ضدّ المعترضين على الإبادة الجماعية للفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية. 

وخلق ذلك في مجموعه مزاجاً متمرّداً لدى قطاعات عريضة من المواطنين، تُرجم تصويتاً للأحزاب المتطرّفة التي تعلن العداء للسياسات الحكومية، وتناهض اصطفاف برلين الحالي في الحرب الأوكرانية، وتتوجّس من سيطرة الولايات المتحدة شبه الكلية على صناعة القرار الألماني، وتدفع في اتجاه التخلّص من المهاجرين الذين جلبتهم سياسة «الباب المفتوح» في عهد المستشارة السابقة، أنجيلا ميركل.
 
وحاولت أحزاب السلطة (وكبار رجال الأعمال) حثّ المواطنين على مقاطعة حزب «البديل من أجل ألمانيا» بزعامة ليبورن هوكه، وتحالف «زاهرا فاغنكنيخت» بزعامة هذه الأخيرة، عبر التركيز على «تطرّفهما وعدائهما للديموقراطية»، 

إلا أن نتيجة الانتخابات المحلية جاءت مخالفة لتوقعاتها، فيما لا يُستبعد أن تنسحب هذه النتيجة على الانتخابات العامة، العام المقبل. 

وهوكه الذي تم تغريمه ما مجموعه 30 ألف يورو هذا العام من قِبَل محكمتَين مختلفتَين لاستخدامه شعارات نازية محظورة، كان قد وصف النصب التذكاري للهولوكوست في برلين بأنه «نصب العار»، وطالب بتحوّل كلي في موقف ألمانيا الاعتذاري تجاه ماضيها النازي، وهو يقود اليوم حركة شبابية صاخبة مناهضة للهجرة، والمثلية، وسياسات المناخ الأخضر، والحساسيات السياسية الليبرالية. 

وفي المقابل، هو مخلص في دعمه للإبادة في غزة وتأييده لإسرائيل والتزامه بعضوية ألمانيا في «حلف شمال الأطلسي»، وإن تحفّظ على الالتحاق بركب العداء روسيا.

أما فاغنكنيخت، فأتت من حزب «دي لينكه» اليساري (ليبرالي) الذي ورث «الحزب الشيوعي» القديم في أقاليم ألمانيا الشرقية، لكنها انشقّت عنه قبل أشهر قليلة، وأسّست تحالفاً نجح في حصد المرتبة الثالثة في ولايتَي تورينغن الشرقية (16%) وساكسونيا (12%)، 

خلف «الديموقراطيين المسيحيين» (يمين الوسط)، و»البديل»، على برنامج يبدو مزيجاً انتقائياً من اقتصاد ذي ميول يسارية، وخطاب مناهض للهجرة، وسياسة خارجية تؤيّد روسيا وتشكّك في الولايات المتحدة وخططها لنشر قواعد الصواريخ المتوسطة المدى على الأراضي الألمانية، لكنه ييتعد مع ذلك عن الدعوة إلى ترك عضوية الاتحاد الأوروبي أو نبذ «الناتو».

على أن شولتس وحكومته ليسا وحيدين في قلقهما من هذا الانكماش في تأييد الكتلة الوسطية لمصلحة أحزاب أقصى اليمين واليسار؛ إذ إن بروكسل (حيث مقر الاتحاد الأوروبي)، التي تصارع مشاكل وجودية بسبب تورّطها في الصراع الأميركي - الروسي على المسرح الأوكراني، وتواجِه كساداً يتعمّق عبر القارة، 

كما توسّع الكتلة اليمينية المتطلبة في البرلمان الأوروبي بعد انتخابات حزيران الماضي، وارتفاعاً مطّرداً في إمكانية انتقال مفاتيح البيت الأبيض من عهدة الديموقراطيين إلى الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ليست بحاجة إلى مزيد من الضعف في برلين، التي تُعدّ - ربّما مع باريس - مركز الجاذبية الأهم للاتحاد. 

وظهر التوتّر واضحاً على رئيسة البرلمان الأوروبي، الفرنسية فاليري هاير، بعد إعلان النتائج التي وصفتها بأنها «يوم مظلم لألمانيا، ويوم مظلم لأوروبا».

وتسيطر أحزاب أقصى اليمين على السلطة أو هي ضمن ائتلاف حاكم في عدد من دول الاتحاد: كرواتيا، فنلندا، هنغاريا، إيطاليا، هولندا، سلوفاكيا والسويد. ومن المرجّح أن تنضمّ النمسا إلى تلك القائمة قريباً، حيث تُظهر استطلاعات الرأي أن حزب «الحرية» اليميني المتطرف يتقدَّم بفارق مريح قبل الانتخابات المقرّرة في الـ 29 من أيلول الجاري. 

من جهتها، غرقت فرنسا في شلل سياسي منذ شهرين، بعدما فرملت جبهة جمهورية - ضمّت أحزاب الوسط ويمين الوسط واليسار - صعود حزب «التجمع الوطني» (أقصى اليمين)، والذي كان على وشك الوصول إلى السلطة في سابقة لم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية. 

أيضاً، يقود اليمين المتطرف المعارضة في بولندا وإسبانيا أيضاً.

ومع التنافر الرسمي بين برلين وباريس منذ بعض الوقت، يخشى بيروقراطيّو بروكسل الليبراليون من تأثير صعود اليمين المتطرف على التحديات التي يواجهها الاتحاد، مثل ضمان استمرار دعم المجهود الحربي لنظام كييف، وسياسات حماية البيئة، وإدارة قضايا الهجرة، إذ ينحو ممثّلو أقصى اليمين إلى عرقلة التوافق على سياسات جماعية يريد الاتحاد فرضها، والتمرّد أحياناً ضدّ السياسات المعتمدة سابقاً. 

ومع ذلك، فإن خبرة بروكسل، إلى الآن، تشير إلى عجز هذه الأحزاب عن تبنّي مواقف موحّدة على المستوى الأوروبي، ما يقلّل من تأثيرها. 

كما أنها تعمد إلى تخفيف حدّة خطابها لدى وصولها إلى السلطة، وهو ما يدل عليه نموذج رئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني، التي تقود حزباً ذا جذور فاشية لكنها اتبعت نهجاً مطلق البراغماتية في التعامل مع الاتحاد و»الناتو»؛ 

وحتى فيكتور أوربان، رئيس هنغاريا المشاغب، الذي أمكن دائماً استيعابه بشكل أو بآخر.

سعيد محمد