مدينة غزة تفرغ قسراً... الاحتلال يسيطر بالتوغل والإخلاء الإجباري
الرأي الثالث - وكالات
كثّف الاحتلال الإسرائيلي خلال الأيام الأخيرة عمليات القصف وأوامر الإخلاء في مدينة غزة وأحياء في مناطق شمالي القطاع، ضمن عمليته العسكرية التي أطلق عليها اسم "عربات جدعون"، والرامية حسب مسؤولي الاحتلال إلى حسم الحرب مع حركة حماس وتنفيذ خطة التهجير.
ومع صدور أوامر الإخلاء هذه، بات الاحتلال الإسرائيلي مسيطراً على 77% من مساحة قطاع غزة، بعدما طلب من غالبية سكان مدينة غزة الموجودين في المناطق الشرقية ووسطها إلى إخلائها والتوجه غرباً ثم التوجه نحو المواصي، جنوبي القطاع.
وكان المكتب الإعلامي الحكومي في غزة قد ذكر في نهاية مايو/ أيار الماضي أن إسرائيل تفرض سيطرتها على 77% من القطاع، "عبر التطهير العرقي والإخلاء القسري والإبادة الجماعية الممنهجة"،
معتبراً أن ذلك يأتي ضمن مساعيها "لإعادة رسم الخريطة السكانية بالقوة". ركز جيش الاحتلال في عدوانه خلال الأسبوع الماضي على استهداف قلب مدينة غزة لدفع السكان إلى النزوح نحو المواصي،
فضلاً عن تكرار أوامر الإخلاء في المناطق الواقعة في أحياء التفاح أو الدرج أو البلدة القديمة في المدينة. ورغم أنه طلب من السكان النزوح نحو المناطق الغربية في الفترة الحالية،
إلا أن الاحتلال يتعمد استهداف هذه المناطق أيضاً، مثلما استهدف أحدث المقاهي في مدينة غزة، أمس الأول الاثنين، حيث ارتكب مجزرة في استراحة وكافتيريا "الباقة" على شاطئ بحر المدينة، مرتكباً مجزرة أسفرت عن استشهاد أكثر من 20 فلسطينياً وجرح عشرات آخرين.
ويبدو أن السلوك الميداني الإسرائيلي يرتكز حالياً على عنصرين أساسيين؛ تعزيز الإخلاء عبر الأوامر الإجبارية الموجهة للسكان، والسيطرة النارية حتى من دون وجود توغل بري على غرار ما يحصل حالياً في مناطق عدة بالقطاع.
وبموازاة هذا السلوك، فإن الاحتلال الإسرائيلي يمارس على أرض الميدان سياسة تقليص المساحة في مناطق القطاع من خلال التقدم البري لقواته على الأرض، وسياسة المناطق العازلة تحت الذرائع الأمنية.
ورغم أن الاحتلال يدعي أن منطقة المواصي التي يدعو السكان للنزوح إليها آمنة، إلا أنه قصفها 47 مرة وارتكب فيها ما يزيد عن 23 مجزرة، عدا عن الاستهدافات المتكررة لخيام النازحين في تلك المنطقة.
وتمثل منطقة المواصي نحو 10% من إجمالي مساحة القطاع البالغة 365 كيلومتراً مربعاً قبل حرب الإبادة على غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023،
إلّا أن الاحتلال قلص هذه المساحة، ولا سيما بعد تنفيذ عمليته العسكرية في رفح واجتياحها في مايو من العام الماضي.
ومع تصاعد الاعتداءات وتسارع وتيرة القصف والقتل في صفوف السكان يُخشى من أن يكون السلوك الإسرائيلي مقدمة لعمليات واسعة النطاق تستهدف احتلال كامل القطاع، وتنفيذ خطة التهجير بحق أكثر من مليوني نسمة.
ولم تنجح أي من الجهود المبذولة في الوصول إلى صيغة لوقف إطلاق نار من خلال إبرام اتفاق بين حركة حماس وتل أبيب، يشمل صفقة تبادل أسرى ومحتجزين والوصول لصيغة تضع حداً للحرب المستمر منذ أكثر من 20 شهراً.
فلسفة القتل
في هذا السياق، قال أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمة بغزة حسام الدجني إن "اليمين الفاشي في إسرائيل، الذي بات يشكل أغلبية داخل المجتمع الإسرائيلي، يتبنى سادية مفرطة تتمثل في قتل الأغيار من العرب"،
مضيفاً أن ذلك "ليس فقط بدافع الكراهية، وإنما لتحقيق أهداف سياسية واضحة". من أبرز هذه الأهداف، وفق الدجني، "أولاً، الضغط على المفاوض الفلسطيني عبر ضرب الحاضنة المجتمعية له، لدفعه إلى تقديم مزيد من التنازلات،
وثانياً، الضغط على الحاضنة الشعبية في غزة بهدف التأثير على وعي باقي مكونات الشعب الفلسطيني والأمة العربية خارج قطاع غزة".
وبرأيه، فإن "قرارات النزوح الجماعي التي تفرضها إسرائيل تندرج ضمن فلسفة القتل، إذ يُقرأ السلوك الميداني الإسرائيلي باعتباره جزءاً من خطة تهدف لتحقيق هذه الأهداف،
دون أي اكتراث بمواقف الدول والمنظمات الدولية، أو صرخات المدنيين الفلسطينيين، ولا حتى نداءات ذوي الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة".
وأشار الدجني إلى أن هذا التوجه "خلق خلافاً بين المستويين العسكري والسياسي في إسرائيل خلال الفترة الأخيرة"،
موضحاً أن "الجيش الإسرائيلي بدأ يدفع أثماناً كبيرة على مستوى الخسائر البشرية، واستنزاف مقدراته، وتأثير ذلك على نفسية جنوده، مقابل أهداف قد تكون غير قابلة للتحقق، بل تضر صورة إسرائيل أكثر مما تخدمها".
ورأى أن كل ما يجري خلال الفترة الحالية "يصب في خدمة توجهات المستوى السياسي في إسرائيل، وعلى رأسه (رئيس الحكومة) بنيامين نتنياهو، الذي يصر على المضي قدماً في سياساته مهما كانت الكلفة الإنسانية والسياسية".
تهجير سكان مدينة غزة
من جهته، اعتبر مدير مركز رؤية للتنمية السياسية (مقره إسطنبول)، أحمد عطاونة، أن ما يجري في مدينة غزة هو امتداد للعدوان الإسرائيلي المستمر على كامل القطاع،
مضيفاً ، أنه "يأتي في إطار سياسة ممنهجة تهدف إلى جعل كل قطاع غزة غير صالح للحياة، وذلك لدفع السكان الفلسطينيين نحو الهجرة القسرية، سواء بشكل مباشر الآن أو لاحقاً".
ومدينة غزة ليست مجرد تجمع سكاني، وفق عطاونة، بل هي "مركز الحضارة والعلم والتاريخ في القطاع، وهي حاضنته المدنية والإدارية والثقافية"،
معتبراً أن "استهدافها يأتي في سياق استكمال عملية التدمير الشامل التي طاولت الشمال والجنوب".
وأضاف أن "الاحتلال ينظر إلى مدينة غزة باعتبارها المركز الأكبر للوجود الفلسطيني حالياً، خصوصاً بعد أن أعلن احتلاله لنحو 75% من القطاع (هدف جيش الاحتلال من خلال عملية عربات جدعون السيطرة على ما بين 70 و75% من مساحة القطاع)".
وبالتالي، فإن "ضرب هذه المنطقة يهدف إلى تفكيك ما تبقى من صمود الفلسطينيين، وإحداث ضغوط مركبة على المقاومة وقيادتها، سواء لانتزاع تنازلات سياسية أو للوصول إلى أسرى أو مقاومين".
وفي ما يتعلق بما يُروّج حول وجود خلافات داخل المؤسسة الإسرائيلية، ذكر عطاونة أنه "حتى وإن ظهرت بعض الخلافات بين المؤسسة الأمنية والسياسية، إلا أنني أرى أنها تدخل في إطار إدارة المعركة أكثر منها خلافات جوهرية".
واعتبر أن "التركيز الإعلامي على وجود خلافات داخل القيادة الإسرائيلية هو نوع من التضليل الإعلامي الممنهج، يهدف إلى إرباك الشعب الفلسطيني وخلط الأوراق، وهو سيناريو متكرر سبق أن استخدم مع لبنان وإيران وغزة".
أما في ما يخص دعوات التهجير نحو منطقة المواصي، فأكد عطاونة أنها تندرج "ضمن خطة التهجير الجماعي وزيادة الضغط على المدنيين الذين يُعتبرون جزءاً أساسياً من معركة الصمود، منذ اللحظة الأولى".
ولفت إلى أن "ما يجري ليس مجرد عملية عسكرية، بل هو مشروع إبادة ممنهج يهدف إلى تدمير مقومات الحياة في قطاع غزة، ودفع الناس إلى الهجرة، وفرض واقع سياسي جديد على حساب الحقوق الوطنية الفلسطينية".