الحرب والسلام في اليمن: قراءة مجافية للسائد
القارئ المنصف في المسألة اليمنيّة، بعد أكثر من عشر سنوات من الحرب واللاحرب والمفاوضات واللامفاوضات، وأقصد بذلك مَن يقفون خارج خنادق الصراع من اليمنيين بعيدًا عن خرائط المصالح بتعقيداتها، يدركون جيدًا أن الخارج هو مَن صنع ويصنع الحرب ويتحكم أيضًا، بمسار السلام وموعده وكيفيته؛
فالحرب والسلام في هذا البلد لا يمكن فصلهما عما يُراد لمشروع الشرق الأوسط الكبير؛ وليس واقع اليمن بمعزل عما حدث ويحدث في سوريا ولبنان وليبيا وغيرها من دول المنطقة.
بالتالي فلجوء الخارج إلى تمديد فترة اللاحرب واللاسلم في اليمن هو جزء من مخطط (بعيدًا عن نظرية المؤامرة) يُراد منه تكريس تقسيم البلاد إلى دويلات؛ وهو ما يحصل حاليًا بوضوح؛
فلكل طرف اقتصاد، ووزارات ووزراء، ونظام حكومي، علاوة على نشوء دويلات على هامش هذا التقسيم؛ والأكثر خطورة هو إمعان إعلام كل طرف أو دويلة على بث ثقافة تعمل بشكل خفي على تقسيم الوعي الوطني، والذي يمكن القول إنه بات مقسمًا بموازاة اهتراء وتمزق النسيج الاجتماعي والوطني؛
حتى بات مَن في عدن ينظرون لمن في صنعاء، وكأنهم من مواطني دولة أخرى تعيش حربًا مع دولتهم، وبالتالي ينظرون إليهم بعين الريبة والشك؛
وكذلك حال من في صنعاء؛ وهو الأمر الذي يمكن إسقاطه على من في الخارج الذين باتوا منقسمين بين الأطراف؛ فمنهم ـ مثلًا- من يصطف مع المجلس الانتقالي، ويعتبر نفسه من دولة ما زالت في بطن أمها، وستولد قريبًا؛
وهي الدولة التي يطلقون عليها، قبل ولادتها، اسم «دولة الجنوب العربي»؛ بل ويتبنى أنصارها ثقافة انسلاخية من الثقافة اليمنيّة، إن جاز القول؛
ويزعمون أنهم ليسوا يمنيين؛ وأن جنوب اليمن لم يكن يومًا يمنيًا؛ كذلك ظهرت هذه الثقافة لدى مكونات في حضرموت، الذين يرون ويعلنون ذلك صراحة وهم يرفعون أعلام من حقبة الاستعمار، أن حضرموت لم تكن يوما ضمن اليمن.
هذا التفسخ الهوياتي، الذي له من يدعمه ويمول مشاريعه، يمثل تحديًا آخر أمام مستقبل وحدة البلاد؛ التي بات يتجاذبها، للأسف، مشاريع عديدة تتجاوز مشروع القسمة على اثنين؛
فثمة مشاريع دويلات تتشكل هنا وهناك؛ ولكل ممول؛ وصار لكل دويلة وحدات مسلحة وأجهزة أمنية واستخباراتية تستهدف اليمنيين لدى الطرف الآخر، وفي سجونها الكثير من الحكايات؛ وكل تلك المشاريع ممولة من الخارج بالتأكيد؛
لأن تمويل ميزانيتها يضمن استمراريتها كمشاريع تقسيم وإضعاف واستلاب.
من أجل تمكين مشاريع التقسيم تختفي مسألة السلام من الخطاب السياسي لأطراف الصراع خلال هذه السنوات؛ فالكل مشغول بتعميق كينونته، مستغلًا تهديد الحرب والوقوف على جرف هاويتها مبررًا لتجاهل السلام وتكريس خطاب الحرب والصراع والانقسام،
في مسار يمثل، في حقيقته، تهديدًا واضحًا لمستقبل اليمن؛ وهو ما يُراد لهذا البلد، ممثلًا في إفراغه من عوامل قوته؛ وفي مقدمتها وحدته الجغرافية والسياسية وربط قواه الحية بشبكة واسعة من المصالح، التي تمثلها الأطراف المتعددة.
تراجع موقع السلام في إحداثيات الخطاب السياسي يعني أن أطراف الصراع لا تريد للبلد أن يتجاوز مأزقه، وهي في الحقيقة مسلوبة القرار،
ولهذا تُمعن في رفض الذهاب إلى مشروع توافقي يُنهي الخلاف، ويذهب بالبلاد إلى دولة مدنية تستأنف مسيرته التنموية والديمقراطية، وتُعيد الاعتبار لحياة أبنائه؛ وتحقق تطلعات آلاف الشهداء ممن أزهقوا أرواحهم على مدى عقود في سبيل مشروع الدولة المدنية.
بقاء الوضع الراهن يعني استمرار الشقاء الذي يفتك بكرامة اليمنيين؛ وبقاء الفقر ملازمًا لأكثر من ثلثي السكان؛ ما يعني أن ثمة إصرارا على استثمار بقاء اليمن أسوأ مأساة إنسانية من صنع البشر في التاريخ الحديث؛
وهي مأساة من صنع مَن يمسكون بزمام فرقاء الصراع، ويتحكمون بحركة البيادق المحلية للمشاريع الإقليمية والخارجية، وهي المشاريع التي تكرس ضعف البلد وتشرذم قواه الحية، كضمان لبقاء البلد ضعيفًا، وقراره مستلبًا.
إن تجاهل الخطاب السياسي لأطراف الصراع لمسألة السلام أو لنقل تراجع السلام في خرائط الخطاب الإعلامي يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الممسكين بزمام الأطراف المتنازعة وصلوا إلى التعامل مع اللاحرب واللاسلم باعتبارها الواقع الحقيقي، الذي يمثل الفرصة السانحة لضمان استمرار اقتصاد الحرب وبقاء البلد معلقا في فضاء لا طريق فيه إلى التوافق؛
لاسيما بعد العجز عن حسم الحرب؛ فلو كانت حربًا فمن يحسم المعركة عليه أن يحكم حتى يسلم القرار للشعب في انتخابات نزيهة.
وفي حال استحالة الحسم فعلى الأطراف الاعتراف بصعوبة الحسم العسكري، وبالتالي عليهم أن يجنحوا جميعًا للسلام، وأن يتقاسموا المناصب والمكاسب قبيل تسليم السلطة للشعب عبر انتخابات تتجلى ضمن مشروع وطني يخلص إليه عقلاء البلد، ممن يعون أن الدولة المدنية هي الخيار الحاسم، الذي يضمن ديمومة السلام وإطفاء كل جمرة مدفونة لحرب أخرى محتملة.
لكن ذلك لم يحصل؛ لأن الداخل غائب والخارج حاضر؛ وهنا تم منح اللاحرب واللاسلم حكم البقاء والديمومة لضمان تكريس التقسيم.
إن تجاهل السلام الذي ينشده اليمنيون يعزز من فرصة أن أطراف الصراع لا يمثلون أبناء بلدهم، وقبل ذلك لا يملكون قرارهم؛ لأن الحرب لا يمكن أن تحقق مكسبًا أو تنال غاية؛
ولو كانت الحرب كذلك لاستعجلها أصحابها، لكنهم مع استحالة حسمها يدركون أن كل منهم يمتلك من القوة ما يجعل الآخر يتراجع خطوة للوراء،
وبالتالي فإن الرضا بالوضع الراهن هو رضا بالتقسيم والانفصال وتمزيق البلد، والمسألة مسألة وقت يتمكن خلالها الفرقاء من تأسيس كل لدولته؛
وهنا يقف الخارج وراء كل هذه المشاريع وما أطراف الصراع إلا أحجار على قطعة شطرنج تنتظر من يحركها؛ لأنه من يدير اللعبة من خارج الرقعة.
كلما استمر تجاهل السلام والمضي في حال اللاحرب واللاسلم؛ كلما ضاقت فرص اليمنيين في تحقيق تطلعاتهم وبناء دولتهم واستئناف مسار التنمية المتوقف منذ أكثر من عشر سنوات.
توقف مسار التنمية لأكثر من عشر سنوات يعني ترديًا وخسائر كبيرة في كل المجالات؛
فمئات آلاف من الطلاب لا يلقون سنويًا مدارس كافية مع بقاء عدد المدارس على حاله؛ ومئات الآلاف من المرضى لا يجدون خدمة صحية كافية مع بقاء المرافق الصحية كما هي عليه؛
ويتضاعف إنفاق المواطنين من ملايين الريالات على أجور النقل وإصلاح السيارات مع بقاء الطرقات بدون صيانة وبقاء الحال كما هو عليه.
بقاء اليمن كما كان عليه قبل أكثر من عشر سنوات بل أسوأ مما كان عليه يمثل إهدارًا للحياة، التي لم تعد صالحة ليعيشها اليمنيون.
الحل؛ أن تتجاوز النُخب اليمنية حالة الانقسام والتشرذم والتغافل إلى صحوة يستيقظ معها كل اليمنيين من سباتهم واستلاب قرارهم، ويستعيدون قرارهم وزمام المبادرة نحو استعادة بلادهم، وإعادة الاعتبار لكرامة وسيادة إنسان وجغرافيا ما يُطلق عليه اسم اليمن.
أحمد الأغبري
القدس العربي