Logo

عقيدة التعتيم تضاعف مآسي اليمنيين.. ما الذي حدث ليلة قصف "الرقاص"؟!

 في مساء الخميس 25 سبتمبر الماضي، كانت مكبرات الصوت وشاشات التلفزيون تبث خطاباً جديداً لعبدالملك الحوثي زعيم الجماعة، حين دوت انفجاراتُ عنيفة في أنحاء مختلفة من المدينة في وقت متزامن، كان من بينها غارة في حيَّ "الرقّاص" وأحياء أخرى في وقتٍ متزامن.

لم يتفاجأ السكان بصوت القصف في مدينةٍ اعتادت دويَّ الصواريخ، غير أنّ ما أعقب الضربة تجاوز مألوف الحرب: مبنى رباعي الطوابق تناثر في لحظات، عشرات الجثث سُحبت على عجل، والكاميرات صمتت بأمرٍ نافذ من الميليشيا التي تخنق المدينة.

لم تكتفِ الميليشيا بالتحكّم في الأرض؛ بل تريد التحكّم في الذاكرة أيضا. في كل حادثةٍ تُغلق الشوارع، وتخرس أصوات الشهود، بعد أن أصدروا توجيهاً رسمياً يمنع المواطنين من التصوير أو النشر بدعوى "الأمن القومي".

 كانت الواقعة في حيّ الرقّاص جلية للعين، لكن الحقيقة خُنِقت تحت الركام.

لم تكن حادثة الرقّاص مجرد قصفٍ عابر؛ بل مرآةٌ لمنهجٍ حوثيٍّ متكرّر يقوم على إخفاء الأرقام، وتكميم الشهود، ومحو الدليل قبل أن يرى النور. وبينما يتحدث الاحتلال الإسرائيلي عن استهداف "مقر قيادة واستخبارات"، تصرّ الجماعة على إنكار الطابع العسكري وتتمسّك بعبارة "أعيان مدنية"، دون أن تتيح لأي طرفٍ مستقلٍّ أن يرى أو يتحقّق.

تحت هذه السرّية المفرطة، تنقلب المعلومة جريمة، والصورة تهمة، والرقم سلاحا بيد السلطة.

هكذا يجري تسيير الحرب: قصفٌ يأتي من عدو خارجي، وإخفاءٌ يُدار من الداخل. وما حدث في الرقّاص هو الدليل الأوضح على أن الصمت لم يعد مجرّد وسيلة حماية، بل سياسة لتزييف الوعي ودفن الحقيقة.

سياق الضربات ومعركة السردية

منذ قرابة عامين تتعرّض مواقع داخل اليمن لضرباتٍ إسرائيلية ردا على هجمات الحوثيين بالصواريخ والمسيّرات. في 25 سبتمبر أعلنت تل أبيب استهداف "مقار قيادة وأمن واستخبارات" تابعة للحوثيين، بالتزامن مع خطابٍ متلفز لعبدالملك الحوثي. 

ومع أن التحقق المستقل ظلّ محدودا بفعل القيود الميدانية، فإن نمط السيطرة على المعلومة سبق القصف وتجاوزه.

تقدّم هذه السردية على خلفية ضربة 10 سبتمبر التي طالت مجمعا صحفيا في صنعاء، وحصدت أرواح 32 من العاملين في الإعلام الحوثي، لتؤسس لمناخ خوفٍ رقابي سهّل على الجماعة تشديد المنع على التصوير والنشر تحت ذرائع أمنية.

وهي نهج عملي لمنظومة منعٍ ثلاثيّة الأبعاد: إغلاق المكان، إخراس الشهود، وتقديم روايةٍ مُغلقة تُحيل كل سؤال إلى «جهةٍ مختصة» لا تتكلم.

رقصة الرقّاص

عند نحو الرابعة وعشر دقائق عصر الخميس، انشقّ صمت صنعاء بضرباتٍ هزّت حيّ الرقّاص وأحياء مجاورة. 

يقول سكانٌ إن الانفجارات جاءت بعد قرابة عشر دقائق من بدء الخطاب الأسبوعي لزعيم الجماعة، وإن حركة سياراتٍ بزجاجٍ داكن شوهدت قبل القصف بدقائق وهي تتوقّف أمام المبنى المستهدف ويترجّل منها أشخاص بلباس مدني ويدخلون المبنى.

قرب المبنى كان يتواجد مجموعة من الأشخاص لسماع خطاب زعيم الجماعة. ارتفعت أعمدة دخان وغبارٍ كثيف فوق الشوارع الضيقة. المبنى الذي أصابته الضربة في الرقّاص رباعيُّ الطوابق، قُدِّم لسكان الحي على أنّه «سكنٌ طلابي».

 يقع ملاصقا لسوق الرقّاص وبالقرب من مدرسة نسيبة للبنات، ويطلّ على ممرّات تؤدي إلى شارع هائل. يصف شهودٌ مشهدا «غير مألوف»: الهيكل انهار دفعة واحدة، وتحول إلى غبارٍ وكومةٍ من الحديد المتشابك.

لم تمضِ دقائق حتى تدفقت فرق بلباسٍ مدني بلا شاراتٍ واضحة. انتشر أفرادها في الأزقة بسرعة، نصبوا حواجز، وطلبوا من المواطنين بأن يبقوا بعيدا. يقول «محمد» (اسمٌ مستعار): «المنع كان صارما؛ لا تصوير ولا اقتراب».

 يشير إلى عناصر يحملون أجهزة لاسلكي ويتصرفون كقوةٍ مدرّبة على تطويق مواقع حساسة.

ويروي سكانٌ مجاورون أنهم لطالما لاحظوا حركة «مريبة» في المبنى: أشخاص يدخلون بصحبة مرافقين، أبواب تُفتح طوال اليوم والليلة، ومركبات تقف دقائق ثم تغادر. لا حراسة ظاهرة أمام الواجهة، لكن التفتيش الداخلي مشدد ومعروفٌ في الحي.

 هذا التناقض بين لافتة «سكنٍ طلابي» ونشاطٍ ليليّ منتظم، ومع تغيّر الوجوه الداخلة والخارجة، زادت الشكوك حول طبيعة المكان.

ومع بدء رفع الأنقاض، يقول الشهود إن فرقاً خاصة أخرجت بقايا صناديق معدنية وكبائن تشبه وحدات تخزين/ سيرفرات من تحت الركام. شوهدت هذه الصناديق تُنقل أولا إلى منازل ومحلات قريبة، ثم جرى في اليوم التالي إخراجها إلى أماكن أخرى متفرّقة «بذريعة أنها أغراض شخصية» بعد تغليفها.

من أول المهام التي قامت بها الميليشيا، هي أن ركبت كاميرات مراقبةٍ على أعمدةٍ مواجهة للركام ولواجهات المنازل المحيطة.

 يقول «محمد»: «صار المكان محاصرا بالصمت. حتى الأسئلة تُقابل بنظراتٍ قاسية. من يقترب يُسأل: لمن تتّصل؟ ماذا تصوّر؟». 

واستمرّ البحث تحت الركام ثلاثة أيام.

"عبده" (اسمٌ مستعار) عاد إلى الحي بعد دقائق من الضربة: «رأيت بعيني ما لا يقل عن عشرين جثة في الشارع المحيط بالمبنى وحده».

 يصف أجسادا ممدّدة مدماة، وحيواناتٍ نافقة على الرصيف المقابل، وغبارا بقي معلَّقا في الهواء ساعة تقريبا.

وعلى أطراف الحي كانت سيارات إسعاف تتوقف قليلا ثم تنطلق بسرعة نحو مستشفياتٍ مختلفة. 

يذكر السكان أنّ زيارة المصابين، الذين سقطوا أثناء انهيار المنازل المجاورة، تستدعي وساطاتٍ شخصية، وأن العثور على مفقودٍ تحوّل إلى رحلةٍ بين أبوابٍ مغلقة: "راجعوا الجهة المختصة"، والجهة المختصة لا تُعطي أسماء.

لاحقاً، أعلنت "وزارة الصحة" التابعة للحوثيين في صنعاء عن 9 قتلى وأكثر من 170 جريحا في جميع مواقع القصف في صنعاء. 

يعلّق بعض سكان الحي: "هذا الرقم لا يشبه ما رأيناه هنا". الفجوة بين مشهد الحي والحصيلة العامة فتحت أسئلة مُلحّة: أين الأسماء؟ أين الخرائط؟ لماذا لا تُخصّص الأعداد بحسب المواقع المستهدفة إن كانت الرواية دقيقة وقابلة للتدقيق؟

تزامن القصف مع الخطاب الأسبوعي للقيادة الحوثية، وهو ما جعل حركة المركبات الرسمية لافتة قبل الضربة.

ويقدّر السكان أنّ كل من كان داخل المبنى لم ينجُ نظرا لقوة الضربة ودقتها. في الوقت ذاته، تمسّكت رواية سلطات صنعاء بعبارة «أعيان مدنية»، فيما قالت إسرائيل إن الضربة طالت «مقار قيادة واستخبارات».

 بين السرديتين، ظل الموقع مغلقا، والسكان ممنوعين من التقاط صورةٍ تُثبت روايتهم.

في ليلة القصف، شوهدت ورشٌ سريعة تعمل على تسوية بقايا الخرسانة ورفع قطع الحديد الثقيلة إلى شاحناتٍ مسطحة.

وبحلول صباح اليوم الخامس، أُقيم جدارٌ من الطوب "البلك" حول آثار المبنى المقصوف، ثم أُعيد فتح الشارع لتخفيف الأسئلة لا الإجابة عنها. يقول أحد أصحاب المحلات: "كل شيء صار منظماً ومختلفاً: حاجز، كاميرا، دورية، رقابة".

أما على مستوى الأحياء الأخرى، فقد وقع قصفٌ متزامنٌ في مناطق عدة من العاصمة، وانقطاع للكهرباء بعد ضرباتٍ طالت مرافقَ حيوية. في الرقّاص، بقيت الذاكرة أقوى من البيان: أصواتٌ ووجوه، بقايا صناديق معدنية، وحواجز لا تُجيب.

 ويستمر السؤال يتردّد: إن كان المبنى «سكنا طلابيا»، فمَن يملك الصناديق العملاقة الشبيهة بالخوادم؟ وإن كانت الأرقام دقيقة، فأين الأسماء؟ يختصر «عبده» المشهد: "صار الخوف من الكلام أكبر من الخوف من الصواريخ". 

بين صوت الانفجار والصمت الذي تبعه، وُلدت رواية الحي، فيما استبقت الروايةُ الرسميةُ الأرقامَ عامة بلا تفاصيل ولا تدقيق.

الحصيلة الرسمية.. رقمٌ يتيم بلا أسماء

أُعلن أولاً عن 8 قتلى و142 جريحاً، ثم رُفع العدد إلى 9 قتلى وأكثر من 170 جريحاً لعموم صنعاء. 

لم تُرفق الحصيلة بقوائم اسمية، ولا بتوزيعٍ جغرافي يبيّن عدد القتلى والمصابين في كل موقعٍ، ولا ببياناتٍ عن مسارات الإخلاء الطبي. في غياب فتح المواقع أمام رقابةٍ مستقلة، تحول الرقم إلى خلاصة سياسية أكثر منه نتيجة توثيقٍ مهني قابلٍ للمراجعة.

يصف الأهالي هذا النهج بـ«الضباب الإحصائي المقصود»: يُدار الرقم مركزياً ويُقدَّم منخفضاً، بينما تُحكم السيطرة على الأرض بإجراءاتٍ تمنع الصورة والسرد البديل. 

ومع المنع الميداني من التصوير والاقتراب، ونشر الجرحى والجثث في العديد من المستشفيات حتى لو كانت بعيدة، تستحيل المقارنة بين ما جرى في بقعةٍ موضعية وما أُعلن عن مدينةٍ بأكملها. هكذا تتكوّن "حصيلةٌ لا تُدقَّق"، ويُترك الجمهور بين ذاكرةٍ محاصرة وبيانٍ رسمي يترك خلفه أسئلة أكثر من الإجابات التي يقدمها.

التوجيه الرسمي

بعد ثلاثة أيامٍ على ضربة 10 سبتمبر التي طالت المجمّع الصحفي، أصدرت وزارة الداخلية بصنعاء بيانا رسميا يوم السبت 13 سبتمبر/أيلول 2025 يأمر المواطنين بالامتناع عن تصوير أو نشر أي مشاهد لمواقع القصف الإسرائيلي، واعتبر ذلك "خدمة مباشرة للعدو" متوعدا بـ«إجراءات قانونية».

 نُشر البيان عبر وسائل الإعلام الموالية للحوثيين، مع تأكيدٍ على حصر التوثيق في "الجهات الرسمية". في المقابل، قوبل الحظر بانتقادٍ مهني وحقوقي، ودعواتٍ لرفعه فورا، ورفض استخدام الحرب ذريعة لإسكات الإعلام وتجريم الشهود.

وليس هذا التوجيه وليد اللحظة؛ فقبل ذلك بأشهرٍ صدر تعميمٌ في 28 مايو/أيار 2025 يمنع أي تصويرٍ أو مقابلاتٍ ميدانية في صنعاء دون تصريح مسبق من "وزارة الإعلام" الحوثية. 

وبذلك جاء أمر 13 سبتمبر فوق بنيةٍ رقابية قائمة أصلا، ليُغلق النافذة الأخيرة أمام التوثيق الشعبي. 

الحظر هنا لا يستهدف الصحفيين وحدهم؛ بل يشمل المواطنين والفرق الإنسانية أيضا مع قصر «التوثيق» على الأذرع الدعائية.

عمليا يتحوّل الهاتف إلى شبهة، والتصوير إلى جريمة، ويُحاصر الفضاء الرقمي بحجب العشرات من المواقع وتقييد المنصات الاجتماعية، في حملةٍ متصاعدة لتجفيف المنابر المستقلة وصناعة فراغٍ معلوماتي شامل لا يبقى فيه مسموعا سوى الصوت الحوثي.

أثر المنع على التحقق والمساءلة

حين يُمنع التصوير، تُسحب أدوات التحقق من يد الصحافة والباحثين. وحين تُحجب المواقع المستقلة، يُجفَّف مسار النشر البديل. وحين تُعتقل كوادر من منظماتٍ أممية، تتعطل الرقابة الإنسانية ويضعف رصد الأثر على المدنيين. 

تتضافر هذه القيود لتجعل أي «حصيلة رسمية» غير قابلةٍ للتدقيق؛ فحتى لو أُعلنت أرقامٌ، تظل بلا قيمة إثباتية في غياب الوصول المستقل والقوائم الإسمية.

في الرقّاص، تقف شهاداتُ السكان عن عشرات القتلى في بقعةٍ واحدة إزاء رقمٍ عام منخفض لمدينةٍ بأكملها. وبين رواية الحي ورقم السلطة فجوةٌ لا تُردم إلا بالشفافية.

أما أن تُغلق الأبواب وتُصادر الهواتف وتُقام الجدران الإسمنتية حول الركام، فلا يبقى من الحقيقة إلا ما يشهد به من عاش الحدث في الميدان.

عقيدة التعتيم أمام الصواريخ أو الكوليرا

لا يقف نهج الإخفاء والتعتيم عند حدود القصف والضحايا؛ بل صار التعتيم عقيدة تشمل كل شيء من الهجمات وصولاً إلى الوبائيات والملفات الصحية. 

وتُظهر التجربة القريبة أن إصرارهم على التعتيم يدفعهم لاستخدام تعابير ملتبسة – كاستبدال «الكوليرا» بعبارة «الإسهال المائي الحاد» – وهو ما يضعف التحذير المجتمعي ويؤخر الاستجابة، ويُحيل الحقَّ في المعرفة الصحية إلى رفاهية. 

أخطر من ذلك حين يُحظر على الأطباء والمستشفيات توعيةُ الناس أو التصريحُ بأعداد الضحايا من الأمراض المعدية؛ إذ يفقد الجمهور إشاراتِ الإنذار المبكر، وتزداد وفياتٌ كان يمكن الوقاية منها. 

هكذا تتدحرج السياسة اللغوية من شاشةٍ إلى مصير: تُخفي المرض بدل مواجهته، وتُعتم على المعلومة بدل أن تحذر وتُنير طريق العلاج.

لماذا تُصرّ الميليشيا على الإخفاء؟

تخدم السرّيةُ الحفاظَ على المعنويات والهيبة داخل مناطق السيطرة، وتمنح مساحة مناورةٍ سياسية ودبلوماسية، وتُقلّل من احتمالات المساءلة القانونية والمجتمعية عن الخسائر المدنية والبنية التحتية، مقارنة بالضجيج المرافق للهجمات التي تُطلقها الميليشيا نحو الخارج. 

ويُسوَّق المنع بذريعة «الأمن» كي لا تُكشف المواقع والقدرات، لكنه عمليا يحجب الأثر البشري: أسماء الضحايا، خرائط الضرر، وشهادات الميدان.

يفرض القانون الدولي الإنساني مبادئ التمييز والتناسب والاحتياطات. بعد أي ضربةٍ على منطقةٍ مأهولة، تصبح الشفافية، تمكين المراقبين – جزءً من حماية المدنيين. 

ما تفعله الجماعة هو العكس: تطويقٌ ومنعٌ وحجب. النتيجة غياب الأدلة اللازمة لتقييم قانونية الاستهداف أو إنصاف الضحايا.

وإذا زعمت إسرائيل أنها أصابت «قيادة واستخبارات»، فالبرهانُ لا يُصاغ في بيانٍ بل يُقدَّم بتحقيقٍ مستقل.

 وإذا قالت سلطات الجماعة إن الأهداف «مدنية»، فالحجّةُ نشرُ القوائم وفتحُ المواقع. بين خطابيْن متناقضين، تقف الميليشيا حارساً على باب الحقيقة: تمنع الجميع من الدخول، وتطالب بتصديقها وترديد روايتها دون تقديم أي دلائل.

الخلاصة

تُكثّف حادثة "الرقّاص" درساً صارخاً: حين تُمنع الكاميرات، وتُحجب المواقع، وتُختزل الأرقام، تُطمس الحقيقة. لا تدير الميليشيا الحوثية أزمة بقدر ما تدير ذاكرة: 

بيانٌ يأمر «لا تُصوّر، لا تنشر» في 13 سبتمبر، يتلوه تطويقٌ ميداني، و«حصيلة بلا أسماء»، وتوسّعٌ في الحجب وصولاً لخنق الفضاء العام وإشعار الناس أنهم يعيشون في معسكر اعتقال كبير. 

هكذا يُصنع الضباب الإحصائي: تُحاصر الشهادة، ويُجرَّم السؤال، ويُستبدل التحقيقُ باليقين المفروض.

ولا يمكن كسر هذا الضباب إلا بنشر منهجيات العدّ، وفتحُ المواقع للمراقبة، وتمكينُ الإعلام، ورفعُ القيود عن التوعية الصحية.

وإلى أن يحدث ذلك، يبقى واجبُ الصحافة والمجتمع المدني توثيقَ كل دقيقةٍ وكل اسمٍ وكل شاهد. فالأرقام بلا أسماء ليست حقيقة؛ إنها أداةٌ في يد سلطةٍ تخشى الضوء وتقتات على الفراغ المعلوماتي. 

وفي "الرقّاص"، يتعيّن الإصغاء إلى صوت الميدان: «محمد» الذي حدّق في الأسلاك والكبائن تُنتشل من تحت الركام، و«عبده» الذي عدّ الأجساد بعينه لا ببيانٍ ممهورٍ بالختم. هؤلاء الشهود هم الحصن الأخير للحقيقة حين تسقط تحت الركام.

تقديرٌ يستند إلى رواية الحي

تجمع المعطيات الميدانية وشهادات السكّان في حيّ الرقّاص على أنّ طبيعة المبنى المستهدف لم تكن مدنية خالصة كما زعمت سلطات صنعاء؛ بل تشير إلى نشاطٍ مغلقٍ يرتبط بمراكز قيادةٍ أو تخزين معلومات. 

حركةُ القيادات قبل القصف، وجودُ صناديق تُشبه خوادم البيانات، وتطويقُ المكان بسرعةٍ غير مألوفة، كلها قرائن تدعم التقدير بأن الضربة وُجِّهت نحو موقعٍ ذي صلةٍ بالقيادة والاستخبارات، لا نحو "سكنٍ طلابي" ولا "أعيانٍ مدنية" وأن الحادثة هي جريمة وإخفاء الحقائق جريمة أخرى.

إن ردّ الفعل السريع بإخفاء الأدلة ومنع التصوير عزّز الشكوك أكثر مما نفى الاتهام: لو كان الهدف مدنياً خالصاً كما تدّعي الجماعة، لما اقتضى الأمر بناء جدارٍ حول الركام، ولا منع التصوير والشهادة.

 بذلك تغدو روايةُ الأهالي وما نُقل من تفاصيل الميدان أكثر تماهيا مع منطق الوقائع من روايةٍ رسميةٍ اختارت الصمت والتضليل لإخفاء خسائرها.

في النهاية، يبقى صوتُ الرقّاص –بما حمله من خوفٍ وجرأةٍ وذاكرة– هو الخيط الأصدق لالتقاط الحقيقة، لا سيما حين تُسدل السلطة على الوقائع ستارا كثيفا من المنع والحجب.

المصدر أونلاين