لماذا يصر "الإماميون الجدد" على إعادة اليمنيين قروناً إلى الخلف؟

يدرك كل من مرّ على هذه الأرض الطيبة المباركة، كان غازياً أو محتلاً، أن حكم اليمنيين لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الخزعبلات الدينية، واختراع دعاوى ومزاعم غير مقبولة، ونسبها للتاريخ، وتأويل نصوص التراث الديني وتوظيفها لصالحه.

هذا ما أدركه أبرهة الحبشي قبيل الإسلام، حين أراد أن يجذب اليمنيين- دينياً- إلى "القليس" كبديل عن "الكعبة"، وفشله في ذلك جعل منه عبرة وعظة تاريخية مستمرة حتى اليوم.

غير أن ذات الفكرة راودت أحفاد، ممن لجأوا إلى اليمن لأسباب سياسية؛ خلال القرون الأولى من الإسلام؛ وقادهم تفكيرهم ورغبتهم للسيطرة على اليمنيين إلى ابتداع تراثٍ يسمح لهم بالسيطرة على البلاد، ويمنحهم -وحدهم- أحقية الحكم.

هؤلاء ادعوا نسبهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وآل بيته الكرام الأطهار، الذين بلا شك هم بريئون من تلك الأفكار التي لا تؤسس للاصطفاء فقط بل وحتى للاستعلاء، وتؤصل لتصنيف الناس إلى طبقات تتفاوت شرفا ومكانة.

ولا يمكن لدين حنيف كالإسلام ساوى بين بلال الحبشي وحمزة بن عبدالمطلب القرشي، أن يتبنى مثل هذه الأفكار الاستعلائية، كما لا يمكن أن يفاضل الإسلام بين الناس بالنسب والحسب، ويغفل جانب الأعمال والتقوى.

بل إن نصوصا كـ"من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، و"لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى"، تؤكد معيار التفضيل الإسلامي، كما تؤكد رفض الإسلام للاصطفاء على أساس النسب، وهو ما حاول الراغبون بحكم اليمن تأسيسه وتأصيله وفرضه على الناس منذ القرون الأولى.

وهم أنفسهم أولئك الذين حاولوا فرض هذا الفكر - رغم نجاحهم فترات زمنية معينة لكنهم سرعان ما انتكسوا - هم أنفسهم أسلاف الإماميين الجدد ممن يحاولون اليوم فرض هذه الأفكار السلالية على اليمنيين، عبر تأويلات وتفسيرات للتراث الديني مفصلة على هواهم ورغباتهم.

وكل ذلك نابع من إدراك هؤلاء أن اليمنيين، كمجتمع محافظ ومتدين، وحبه لآل بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قابل للتأثر والقبول بتفسيرات اخترعها أصحابها لنصوص دينية وأحاديث قد لا تحمل دلالاتها أي شيء مما يروج له اليوم أو حتى قبل ألف عام.

وعلى مدى قرون، بدت الزيدية في اليمن- كمذهب ديني- تحتل موقعاً متوازناً بين السنة والشيعة، يقدسون آل البيت ويعطونهم مكانتهم، لكنهم أيضا يعترفون بخلافة الخلفاء الثلاثة بعد رسول الله، ويمارسون مذهبهم "الديني" بلا غلو أو تطرف.

غير أن هذا الفكر الذي بدا وسطياً لوهلة، تعرض للكثير من التغذية المتطرفة، ليس منذ اليوم، بل منذ قرون مضت، لغايات سياسية واقتصادية بحتة، لا علاقة لها بالدين.

كان الأئمة الاوائل ممن حكموا اليمن بعد القرون الأربعة الأولى من الإسلام، يسعون إلى إخضاع اليمنيين لحكمهم تارة، واستثارة الناس للقتال معهم ضد أعدائهم السياسيين تارات أخرى، وفي كل مرة كانوا يستغلون الدين في ذلك.

الاستغلال الديني كان عبر عدة أشكال، منها نسب الحاكم، نفسه إلى آل البيت، وإظهار نفسه "إماماً عالماً" حتى يكون صالحاً للحكم، بحسب شروط المذهب، ومن تلك الأشكال ايضا، تكفير المناهضين لهم وخصومهم السياسيين وإعلان فتواهم على العامة لتجنيدهم للقتال.

كانت تلك الأساليب تهدف إلى "تدجين" اليمنيين، وجعلهم مجرد "سخرة" بين أيدي الأئمة لتسخيرهم في صالح مكاسبهم وتنفيذ مخططاتهم، وشيطنة خصومهم، وإسباغ صفات الولاية والأحقية بالحكم لهم حتى يستحثوا أكبر عدد ممكن من اليمنيين للقتال.

وقد يكون الإماميون السابقون نجحوا لعقود في إخضاع اليمنيين لحكمهم، غير أن السنوات السبع العجاف الماضية التي يحاول الأماميين الجدد فيها استرجاع "ملك أسلافهم" تواجهها مقاومة قوية.

ولعل هناك عوامل عديدة تمنع استتباب الحكم والسيطرة للإماميين الجدد، منها أن العقود الستة من عمر الثورة اليمنية ضد حكم الإمامة ما زالت أفكارها التنويرية حية وباقية، ولم تذهب أدراج الرياح، كما يحاول البعض أن يروج لذلك، فأفكار الدولة والجمهورية سرعان ما تعمقت في وجدان اليمنيين بمجرد سقوط حكم الإمامة عام 1962، وتجلى ذلك في ملحمة حصار صنعاء، وفشل محاولة إسقاطها أواخر عام 1968، ما يؤكد أن قيم المساواة بين طبقات الشعب ترسخت في وجدانهم رغم عمر الثورة القصير، وإدراك اليمنيين للاستغلال الإمامي، للفكر الديني والتراث الإسلامي وتكريسها لحكمهم وسرقة ونهب ثرواتهم وخبراتهم، بل وحتى استعباد الناس، والتفريق بينهم عبر طبقات السادة والعبيد، "القناديل والزنابيل".