أرامل النزاعات... الفئة المنسية في زمن الحرب
تبدو مناسبة الاحتفاء اليوم بـ"اليوم الدولي للأرامل غير جديرة أو لا تستدعي الالتفات، لكن حين يبلغ عدد النساء اللاتي فقدن أزواجهن في الكوكب نحو 258 مليون امرأة، أي 258 مليون أسرة، نسبة كبيرة منهن في أماكن الصراع، وحين تكون النسبة الأكبر من أماكن الصراع في الشرق الأوسط، فإن المناسبة تفرض نفسها على رغم عن الجميع.
فقدان الزوج في الغالب يكون خسارة نفسية وعاطفية فادحة. وحين تكون الخسارة في أوضاع الحرب والصراع والنزوح والتهجير واللجوء فإنها تكون مضاعفة، وأحياناً قاتلة.
تقول منظمة "الأمم المتحدة" إن كثيرات ممن يفقدن أزواجهن تتفاقم خسارتهن بسبب الكفاح من أجل الحصول على حقوقهن الأساسية وضمان كرامتهن، لا سيما في الدول النامية، أو بمعنى أكثر مباشرة الفقيرة، وتلك التي تخضع لمنظومة من العادات والتقاليد أو الأعراف أو القوانين، أو كل ما سبق، التي من شأنها أن تفاقم معاناة الأرملة.
في أخف الأحوال وأبسطها، غالباً تحرم الأرملة من حقوق الميراث، ويُستولى على ميراثها من قبل رجال الأسرة بعد وفاة الزوج. البعض يصف "الاستيلاء" بـ"الحفاظ على المال أو الممتلكات، لأن النساء مسرفات أو غير مسؤولات أو ناقصات عقل، أو ربما يتزوجن مجدداً ويذهب ميراث الزوج لرجل غريب".
البعض الآخر، ومن واقع تجارب عديدة يراه استيلاءً واضحاً صريحاً لا ريب فيه، وفي أفضل الأحوال، يمنُّ رجال الأسرة على الأرملة وأطفالها بتوفير الغذاء والكساء، لكن بشروط صارمة تسلب الأرملة حقها في تقرير المصير.
تشير المنظمة الأممية إلى أنه في جميع أنحاء العالم تقل احتمالية حصول المرأة على المعاشات المتصلة بالشيخوخة مقارنة بالرجل، وهذا يعني أن وفاة الزوج يمكن أن تؤدي إلى انتشار العوز بين المسنات.
الأرامل غير المسنات لسن أفضل حالاً، وأحياناً تكون معاناتهن مضاعفة، لا سيما في حالات الفقر والنزاع والعادات والأعراف التي تظلمهن، وأحياناً تصمهن.
اللافت والمؤسف، والذي يمضي دون أن يلفت انتباه الغالبية هو أن عبارات مثل "أرامل الثورة" أو "أرامل النظام" أو "أرامل المعارضة" وغيرها يجري استخدامها للسخرية السياسية من أشخاص يجري وصمهم بالضعف أو البؤس أو الكآبة أو المهانة أو العجز، أو غيرها من الصفات التي يلصقها عديد من المجتمعات، ومنها العربية، بالأرملة، ولو بحسن نية.
الأمم المتحدة في اليوم الدولي للأرامل لا تتطرق إلى "أرامل الأنظمة" أو "المعارضة"، لكنها تسلط الضوء على الأرامل من البشر.
المنظمة الأممية تطالب بإتاحة المعلومات الخاصة بحصول الأرامل على حقوقهن المشروعة في المواريث أو الأراضي والموارد الإنتاجية والمعاشات التقاعدية والحماية الاجتماعية،
إضافة إلى إتاحة فرص التعليم والتدريب والعمل الكريم والأجر العادل، وجميعها أمور من شأنها أن تتصدى للفقر المرتبط بكثيرات منهن، وممارسة العنف والتمييز ضدهن.
نظرياً، الدعوة رائعة، والمطالب عادلة، والحقوق مستحقة. فعلياً، يصعب، أو بالأحرى يستحيل، أن تقف الأرملة الواعية بحقوقها المدركة لمطالبها في وجه مجتمع وقوانين وأعراف لا تعترف بكل ما سبق، وهو الحال في عدد من الدول العربية.
البقاء على قيد الحياة في غزة
على أرض الواقع أيضاً، لم يعد كل ما سبق الهم الشاغل للأرامل في المنطقة العربية الزاخرة بالصراعات ومناطق النزوح، بل أصبحت أولويتهن البقاء على قيد الحياة، لا سيما في حال كن أمهات.
في غزة، وبحسب المكتب الإقليمي للدول العربية في "منظمة الأمم المتحدة للمرأة"، فإن عدد النساء في غزة اللاتي كن يحصلن على دخل مادي قبل تفجر أحداث أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023 كان قليلاً،
وقد تقلص بصورة لافتة بعدها. في الوقت نفسه تفقد الكثيرات أزواجهن الذين يعولون الأسر، مما فاقم المعاناة.
الجميع في غزة يعاني الصراع، وأخيراً الجوع. ونساء غزة، لا سيما من فقدن الأزواج، يواجهن عقبات مضاعفة لدى محاولتهن الحصول على قدر من الغذاء لهن وأطفالهن عند توزيع المساعدات.
معضلة أرامل غزة متعددة الأوجه. تبدأ بتضارب الأعداد، وهو أمر مهم لتقييم حجم ونوع الدعم والمساعدة والحماية التي يحتجن إليها، هذا في حال توافر سبل تقديمها،
وتمر بتحديد أماكنهن في ظل التهجير المستمر، وتنتهي بتعرض الجميع، بمن فيهم الأرامل للقتل في قصف هنا أو استهداف هناك.
في مطلع العام الماضي، قال مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إن نحو 70 في المئة من الضحايا الذين جرى التحقق من وفاتهم نساء وأطفال. بحسب موقع "لسنا أرقاماً" المخصص لكتاب فلسطينيين يكتبون عن قصصهم وحقوقهم الإنسانية باللغة الإنجليزية،
واستناداً إلى أرقام الأمم المتحدة، ترملت نحو ثلاثة آلاف امرأة في غزة منذ اندلاع الحرب في أكتوبر عام 2023 وحتى أبريل (نيسان) 2024. معظمهم يواجه تحديات هائلة،
لا سيما أن أفراد عائلاتهن وأصهارهن يكونون قد قتلوا أيضاً. وهذا يعني أن عليهن توفير الدخل المادي لأنفسهن وأطفالهن، ورعايتهم، مع انعدام الأمن، والنزوح المستمر، وإدارة حزنهن.
قصص إنسانية عديدة تصدر من غزة عن نساء فقدن أزواجهن، ووجدن أنفسهن في مواجهة مباشرة مع الحرب، وضرورة إعالة أطفالهن، لا سيما أن متوسط الخصوبة بلغ 3.38 طفلاً لكل امرأة.
عديد من النساء الأرامل ينزحن ويسعين للعثور على طعام لأنفسهن وأربعة أو خمسة أو ستة أبناء. إنهن الحلقة الأضعف في حلقات حرب القطاع بالغة الضعف.
من السودان إلى اليمن
حلقة أضعف شبيهة يتذكرها البعض في "اليوم الدولي للأرمل"، وهي حلقة أرامل الحرب في اليمن. منذ ما يزيد على عقد، وتقارير حقوقية وإنسانية تسلط ضوءاً، وإن كان محدوداً على نساء اليمن اللاتي يفقدن أزواجهن والعائل الوحيد لأسرهن في الصراع.
توليفة الحرب وما ينجم عنها من تهديدات مستمرة للبقاء على قيد الحياة، مع ضياع مصدر الدخل للأسرة، وصعوبة الوصول إلى الخدمات الأساسية من غذاء ورعاية صحية وبالطبع تعليم وغيرها، واتساع دائرة الفقر المتسعة أصلاً،
مضافاً إليها القيود الاجتماعية والثقافية التي تفاقم من حجم المعاناة، حيث قيود البحث عن عمل أو الحركة مع انتشار الأمية ونقص الخبرات ما يحول دون العثور على فرص عمل في اقتصاد أنهكته الحرب.
إنهاكات الحروب كثيرة وظلالها الوخيمة التي تطبق على النساء اللاتي يفقدن أزواجهن في المنطقة كثيفة، ومنها ظلال الحروب والقلاقل الأمنية في العراق على مدار سنوات.
الأعداد غير دقيقة، وتراوح ما بين مليون و3 ملايين امرأة فقدن أزواجهن، سواء بالموت أو جرى إدراج الزوج تحت بند "المفقودين".
تقارير عراقية عدة تشير على مدار سنوات الحروب في العقود الماضية، تحديداً منذ حرب الخليج الأولى عام 1980، ثم الثانية عام 1990، ثم الثالثة عام 2003،
وهو العام الذي تسلمت فيه "داعش" مقاليد أمور زعزعة الأمن وحصد القتلى وتخليف أعداد متزايدة من الأرامل.
بحسب تقرير لـ"منظمة الأمم المتحدة للمرأة" (2023)، أدت عقود من الحرب في العراق إلى ملايين النساء والفتيات اللاتي غرقن في فقر ممتد، وتعطيل التعليم، وزواج الأطفال، وخسائر الأرواح، وكذلك عدد لا يحصى من النساء الأرامل،
وهذه الفئة الأخيرة الأكثر ضعفاً حين تكون مسؤولة عن الصغار، وربما أفراد آخرين في الأسرة. ولا يعد العراق استثناء فيما يختص بالعادات والأعراف المقيدة للأرامل التي تمثل حملاً إضافياً لا يحمله سواهن.
سيناريو شبه مطابق تدور أحداثه في السودان الذي عانى حلقات وموجات من العنف والصراع الداخلي على مدار عقود. في ضوء الحرب الحالية في السودان منذ عام 2023 تقدر أعداد من نزحوا بنحو 12 مليون شخص، أكثر من نصفهم من النساء والأطفال.
نحو 30 مليون سوداني يحتاجون إلى المساعدة والدعم والحماية، وهو ما يشكل نحو 64 في المئة من التعداد، والجانب الأكبر منهم نساء وأطفال.
وكما هو معتاد، فإن العنف القائم على النوع يكون من نصيب النساء، وحين تفقد المرأة زوجها في مثل هذه الأوضاع المأسوية، فإن المعاناة مضاعفة.
أرقام الأمم المتحدة تشير إلى أن 53 في المئة من النازحين داخلياً في حرب السودان الحالية هن نساء وأطفال. وتحذر المنظمة الأممية من تصاعد العنف القائم على النوع الاجتماعي والاعتداءات الجنسية، التي ارتفعت بأكثر من ثلاثة أضعاف في أقل من عامين،
مع العلم أن عديداً من هذه الاعتداءات لا يبلغ عنها، ونسبة من الضحايا هن من الأرامل نظراً إلى أوضاعهن الضعيفة ومسؤوليتهن عن صغارهن. حاجة النساء للحصول على الطعام في مثل هذه الأوضاع تضعهن في مرمى الاعتداءات أكثر من غيرهن.
من جهة أخرى تزخر دول النزوح المجاورة بقصص عن أرامل سودانيات نجحن في الهرب إلى بلد آخر، وبدء معاناة جديدة للبحث عن عمل، أو الحصول على مساعدات من الجهات المعنية بالمهاجرين واللاجئين، والتعامل مع المجتمع الجديد بين مرحب وغير مرحب بهن.
أجواء الترحيب بالنظام الجديد في سوريا بعد سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد لم تدرج بعد النساء السوريات اللاتي فقدن أزواجهن على مدار الحرب الأهلية في سوريا لما يزيد على عقد.
مرة أخرى، تغيب الأرقام المؤكدة. فقط تقديرات. مسح ديموغرافي أجراه "المكتب المركزي للإحصاء" الحكومي أشار إلى أن نحو 518 ألف امرأة سورية فقدت زوجها أثناء الحرب،
لكن تقارير "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين" تشير إلى أن العدد لا يقل عن 145 ألف أسرة سورية لاجئة في دول مثل مصر وتركيا والعراق والأردن ولبنان تعيلها نساء، بعد فقدان الزوج أو اختفائه.
معاناة هؤلاء لم تنتهِ بانتهاء نظام الأسد، لا سيما في ظل جهود إعادة بناء الدولة السورية، ربما على أسس جديدة لم تظهر معالمها بعد، إضافة إلى تفجر أواضع الإقليم والتوترات المصاحبة لذلك في ضوء الحرب الإسرائيلية (الأميركية) الإيرانية.
يشار إلى أن تقريراً نشرته منظمة "وورلد فيجين" (منظمة خيرية مسيحية) قبل ثلاثة أعوام عن الاعتداءات الجنسية التي تتعرض لها نساء أرامل ومطلقات وقاصرات في مخيمات النازحين في شمال غربي سوريا أثارت غضب الكثيرين من السوريين.
من جهة أخرى كان عدد من النساء السوريات ممن فقدن أزواجهن قد عبرن الحدود إلى لبنان قبل سنوات، وأقمن في مخيم في سهل البقاع شرق لبنان،
وتحديداً في مخيم أطلق عليه "مخيم الأرامل"، والذي أقيم على مساحو 1200 متر مربع، وفيها أماكن إيواء لهؤلاء النساء الهاربات من العنف والاعتداءات الجنسية.
خطيئة الإهمال
قبل ما يزيد على عقدين، قالت الأمم المتحدة "إنه لا توجد فئة أكثر تأثراً بخطيئة الإهمال من الأرامل المستضعفات". قالت إنهن (الأرامل) غائبات عن الإحصاءات في عديد من الدول النامية،
ونادراً ما يتم ذكرهن في التقارير التي تتعلق بالفقر ووجهه النسائي، أو نقص الخدمات، أو غياب الاهتمام بالصحة البدنية، وبالطبع النفسية، مطلقة عليهن "الفئة المنسية من النساء".
كان هذا قبل تفجر الصراعات والحروب، لا سيما في المنطقة العربية. في اليوم الدولي للأرامل 2025، يتذكر العالم في خضم الصراع المتأجج في الشرق الأوسط أن هناك أعداداً غفيرة من النساء اللاتي فقدن أزواجهن في نزاعات مسلحة،
والعدد يزيد على مدار الساعة، وأن الأرامل في النزاعات المسلحة يسعين جاهدات لرعاية أنفسهن وأطفالهن سواء في بلدانهن وسط الحرب، أو في مخيمات اللاجئين أو دول اللجوء.
ويضاف إلى معاناة فقدان الزوج في الحرب أو الصراع، ومعاناة نفسية يجري إغفالها تماماً بفعل القصف والدمار والصراع من أجل البقاء.
في اليوم الدولي للأرامل، يمكن القول إن أرامل النزاعات في المنطقة العربية هن "الفئة المنسية جداً".
أمينة خيري