سجون ونهب وتقديس... مآسي اليمنيين في "نار الحوثي"
حظيت جماعة الحوثي المدعومة من إيران بإشادات واسعة في احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين حول العالم وعلى منصات التواصل الاجتماعي، بسبب هجماتها الصاروخية على إسرائيل على خلفية حرب غزة.
وخلال مايو (أيار) الماضي، امتدح الرئيس الأميركي دونالد ترمب نفسه صلابة الحوثيين. وقال ترمب، معلناً أن الجماعة وافقت على وقف مهاجمة السفن في البحر الأحمر بعد أسابيع من الضربات الأميركية "لقد تلقوا ضربات قوية، لكنهم يملكون قدرة هائلة على تحمل الضربات، تحملوا ذلك وأظهروا شجاعة كبيرة".
لكن في الداخل، لدى كثير ممن عاشوا تحت حكم الحوثيين رأي مختلف تماماً.
ضمن مقابلات مع مئات اليمنيين الفارين من المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين في هذا البلد المنقسم، وصفوا الحوثيين بأنهم حركة مسلحة تقمع الأصوات المعارضة، وتدفع الناس إلى حافة الجوع، وتستغل المساعدات الغذائية الدولية لإكراه الآباء على تسليم أطفالهم للقتال في صفوفها.
قال عبدالسلام، وهو مزارع في الـ37 من عمره يعيش داخل مخيم للنازحين في اليمن بعد فراره من مناطق سيطرة الحوثيين "الناس بين المر والأمر منه... يخيرونك إما تكون معنا وتأخذ سلة (طعام) تسد الجوع أو لا، ويكون الخيار صعباً".
كحال كثرٍ ممن تحدثت "رويترز" إليهم، طلب عبدالسلام الاكتفاء بذكر اسمه الأول، قائلاً إن أفراداً من عائلته ما زالوا يعيشون تحت حكم الحوثيين.
تكشف هذه المقابلات مع مدنيين يمنيين وعشرات من موظفي الإغاثة، إلى جانب مراجعة وثائق داخلية لوكالات إغاثة تابعة للأمم المتحدة، كيف يحافظ الحوثيون على قبضتهم الحديدية، يفرضون طيفاً واسعاً من الضرائب على سكان فقراء، ويتلاعبون بنظام المساعدات الدولية، ويسجنون المئات.
وتعرضت منظمات حقوق الإنسان والإغاثة لموجات من الاعتقالات، ففي أواخر أغسطس (آب) الماضي، قال برنامج الأغذية العالمي إن 15 موظفاً اعتقلوا عقب اقتحام سلطات الحوثيين مكاتب المنظمة في العاصمة صنعاء، ليرتفع عدد موظفي الإغاثة المحتجزين حالياً إلى 53.
يقول أبو حمزة، الذي فر من الأراضي التي يسيطر عليها الحوثيون قبل بضعة أعوام "نعيش عيشة كالمغص لا نستطيع التنفس". وأشار إلى أنه أمضى عاماً في زنازين سجن تحت الأرض بسبب تحدثه علناً ضد الحوثيين خلال جلسات القات "نحن محكومون بميليشيات تحكم بالدين".
ولم تتمكن "رويترز" من تأكيد جميع جوانب رواية أبو حمزة ورواية آخرين تحدثت إليهم، لكن قصصهم عن اضطهاد الحوثيين كانت في كثير من الأحيان متشابهة ومتسقة إلى حد كبير.
وقال نائب رئيس المكتب الإعلامي للحوثيين نصر الدين عامر إن اليمنيين يعرفون أن موقف الجماعة من غزة عرضها "لحملات تشويه وشيطنة أميركية صهيونية مكثفة، تشارك فيها أدواتهم داخل المنطقة".
وينتشر الجوع في مختلف أنحاء اليمن، البلد الذي مزقته الحرب الأهلية التي اندلعت عام 2014. وأعلن التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، وهو مرصد عالمي لمراقبة الجوع، خلال يونيو (حزيران) الماضي أن أكثر من 17 مليوناً من أصل 40 مليون نسمة في اليمن يواجهون "مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد".
وتراجع تمويل المانحين للمشاريع الإنسانية في اليمن، ويعزى ذلك جزئياً إلى استمرار الحوثيين في تحويل مسار المساعدات. وازداد الوضع سوءاً خلال وقت سابق من هذا العام، عندما نضب أكبر مصدر لتمويل أعمال الإغاثة الإنسانية داخل البلاد بعدما خفضت إدارة ترمب المساعدات الخارجية، مما أنهى عدداً من العمليات التي كانت تمولها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، ذراع واشنطن لتقديم المساعدات.
ولم يرد البيت الأبيض على أسئلة حول آراء ترمب في شأن الحوثيين أو خفض المساعدات. وقالت وزارة الخارجية الأميركية إن "تقاعس الحوثيين عن السماح بإيصال المساعدات الحيوية بصورة آمنة يسهم في ارتفاع مستويات الجوع شمال اليمن".
ومنذ هجوم حركة "حماس" خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وجهت إسرائيل ضربات مدمرة لـ"حماس" داخل غزة ولجماعة "حزب الله" في لبنان، وكلاهما جزء من "محور المقاومة" الإيراني.
واستهدفت الحوثيين، بما في ذلك هجوم خلال أغسطس الماضي أسفر عن مقتل رئيس الوزراء المعين من قبل الحوثيين وعدد من الوزراء. وأدى إلى مقتل عشرات من المدنيين حسب تصريحات الحوثيين، لكن هذه الضربات فشلت في ردع الجماعة عن إطلاق طائرات مسيرة وصواريخ على إسرائيل.
يقول متخصصون إن حرب غزة منحت الحوثيين زخماً، فقد أدركت الجماعة "أنها تستطيع استغلال حرب غزة وأصبحت مغرمة بصورتها الإقليمية والدولية الجديدة" بحسب رأي الخبيرة اليمنية ميساء شجاع الدين الباحثة في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، مضيفة أن "الغضب الشعبي تجاه الحوثيين يتصاعد على الأرض، إذ يتحمل اليمنيون وطأة الضربات الإسرائيلية الانتقامية".
ورفض عامر نائب رئيس المكتب الإعلامي للحوثيين فكرة أن الجماعة "تستغل أحداث غزة"، قائلاً إن هذا الادعاء يتجاهل "حقيقة أن شعارنا الرسمي منذ اليوم الأول لحركتنا كان ’الموت لأميركا والموت لإسرائيل‘".
تقديس الزعيم
لا يزال كثير من اليمنيين يعرفون أنفسهم "شماليين" و"جنوبيين" على وقع خط الانقسام السابق خلال عام 1990 حين كان اليمن دولتين.
وينتمي الحوثيون إلى المذهب الزيدي، إحدى فرق الشيعة، الذي كان يحكم شمال اليمن في السابق، وهي منطقة كانت معزولة وفقيرة. والاسم الرسمي للجماعة هو "أنصار الله" غير أن تسميتها الشائعة جاءت من اسم العائلة التي قادت حركة الإحياء الديني.
يتزعم الجماعة عبدالملك الحوثي، وهو في الأربعينيات من عمره، منذ عقدين من الزمان وقادها خلال حرب أهلية تفجرت عام 2014 بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء.
خرج الحوثيون بسيطرة كاملة على الشمال، فيما تخضع بقية البلاد اليوم لمجموعة متشابكة من قوى محلية وفصائل مسلحة.
وتشكل هذه القوى مجلس القيادة الرئاسي، وهو هيئة معترف بها دولياً، لكن محللين يرون أنها مثقلة بتجاذبات مناطقية وسياسية.
يرد وزير الإعلام اليمني معمر الإرياني على الحديث عن الانقسامات داخل الحكومة بالقول، إن ذلك مبالغ فيه. ويضيف "على رغم وجود تباين في وجهات النظر، هناك إجماع على الهدف الرئيس، استعادة الدولة وإنهاء الانقلاب الحوثي".
لا يظهر عبدالملك الحوثي علناً، بل يلقي خطبه أسبوعياً عبر شاشات التلفزيون أمام حشود في الساحة الرئيسة بصنعاء. وهناك يردد الحاضرون شعار الجماعة السياسي "الله أكبر... الموت لأميركا... الموت لإسرائيل... اللعنة على اليهود... النصر للإسلام".
وبحسب باحثين متخصصين في شؤون الجماعة، يحكم الحوثي عبر دائرة ضيقة من المقربين وأفراد العائلة، ويعتمد على بث الخوف. وتقول منظمات لحقوق الإنسان وعدد من المحتجزين السابقين الذين قابلتهم "رويترز" إنه جرى اعتقال آلاف اليمنيين واحتجازهم بمعزل عن العالم الخارجي وتعذيبهم على يد الحوثيين.
وقال عامر "هي مسيرة عودة إلى القرآن وقيم القرآن وليست مسيرة أسرية".
ويؤكد عشرات من النازحين الذين تحدثت إليهم "رويترز" أن الحوثيين ينفذون حملات تعبئة أيديولوجية مكثفة، إذ يجبر موظفو الدولة، بحسب قولهم، على حضور جلسات أسبوعية تبث فيها محاضرات لعبدالملك الحوثي، فيما تنتشر صوره وكلماته على لوحات ضخمة داخل شوارع صنعاء.
ويقول عبدالملك وهو معلم، إنه غادر مناطق سيطرة الحوثيين خلال يناير (كانون الثاني) 2024، بعدما أوقفه مشرف مدرسة حوثي عن العمل لرفضه حضور جلسات التعبئة.
وقال عبدالملك (40 سنة) "لا يوجد راتب والحياة مستحيلة. والأسوأ حينما يأتي الحوثيون عند البيت ليجمعوا تبرعات لدعم مسيرات غزة... هذا بصورة أسبوعية".
لكن المتحدث الحوثي عامر يقول إن "اتهامات التعذيب في السجون كاذبة ولا أساس لها من الصحة، وكذلك الادعاءات بأن الناس يجبرون على حضور المسيرات أو التبرع لها أو حضور المحاضرات في أماكن عملهم". ويضيف أن اتهام الحوثيين بأنهم مجرد وكيل لإيران ليس سوى محاولة "لتبرير العدوان على الشعب اليمني".
التحكم في المساعدات
بين عامي 2015 و2024، جمعت الأمم المتحدة 28 مليار دولار لتلبية الحاجات الإنسانية في اليمن. وذهب ثلث هذه الأموال، نحو 9 مليارات دولار، إلى برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة لإطعام ما يصل إلى 12 مليون شخص شهرياً، معظمهم في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون.
وضخت وكالات الأمم المتحدة الأخرى، بما في ذلك صندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) ومنظمة الصحة العالمية، مئات الملايين في المرافق الصحية وإمدادات الوقود والبرامج الغذائية.
لكن المساعدات في كثير من الأحيان لا تصل إلى مستحقيها.
وبالنسبة إلى فواز كانت المساعدات الدولية شريان حياة بعدما كان يعمل محاسباً قبل الحرب، لكن بعدما دمر القتال الاقتصاد اضطر لبيع مصاغ زوجته لإطعام الأسرة.
الأب البالغ من العمر 47 سنة لديه ثمانية أطفال وتحدث إلى "رويترز" في مخيم للنازحين اليمنيين، حيث يعيش الآن بعد فراره من مناطق الحوثيين خلال عام 2021.
يقول إنه حاول تسجيل اسمه في قائمة متلقي المساعدات داخل محافظة حجة التي يسيطر عليها الحوثيون. وأضاف أن السلطات المحلية الحوثية وضعته أمام خيارين، إذا أراد سلة غذائية، فعليه "الانضمام إلى ميليشياتهم، والمشاركة في المسيرات الأسبوعية والهتاف (الموت لأميركا)".
وعندما رفض، وصفه مشرف حوثي بأنه "عدو" وقرر أنه "غير مستحق" للحصول على المساعدات، على حد قول فواز. فقد فواز ساقه بعد فراره من الحوثيين ومحاولته العبور إلى السعودية بحثاً عن عمل، قائلاً إن ساقه تمزقت عندما انفجر لغم أرضي أثناء تحركه عبر حقل ألغام قرب الحدود السعودية.
ووفقاً لعشرات النازحين والمراقبين الميدانيين المحليين التابعين للأمم المتحدة وموظفي الإغاثة، سيطر الحوثيون فعلياً على سلسلة إمداد المساعدات الإنسانية.
وعلى سبيل المثال، تتضمن قوائم المستحقين للمساعدات أسماء عدد كبير من الأشخاص الذين ليس لهم وجود أو "المستفيدين الأشباح"، وغالباً ما يكون أولئك الذين يتلقون المساعدات من الموالين للحوثيين مثل المقاتلين.
وقال أحد موظفي الإغاثة لـ"رويترز" إنه من بين نحو 9 ملايين شخص مسجلين لتلقي المساعدات داخل المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، "لم نكن نعرف 5 ملايين منهم".
دفع هذا التقويض لعملية المساعدات برنامج الأغذية العالمي إلى تجميد توزيع السلال الغذائية عام 2023 داخل المناطق التي يديرها الحوثيون. وقال متحدث باسم البرنامج إن تعليق المساعدات شمال اليمن عام 2023 "مرتبط بتعذر التوصل إلى اتفاق" مع سلطات الحوثيين، في شأن تدابير تحديد المستفيدين الحقيقيين من المساعدات، مضيفاً أن المنظمة "استأنفت عمليات توزيع طارئة محدودة في المناطق الأكثر عرضة للخطر" لتفادي المجاعة.
وقال المتحدث "خلال الوقت الحالي، توقفت جميع عمليات برنامج الأغذية العالمي داخل المحافظات الشمالية في اليمن".
وقال عامر إن برنامج الأغذية العالمي "ذراع أميركية" وإن "هذا العمل الإنساني إنما هو عمل سياسي وعسكري واستخباراتي بهدف إخضاع الشعب اليمني ومساومته على حريته".
ومارس الحوثيون السيطرة على جمع بيانات الأمن الغذائي، والتي تشكل الأساس لتقييمات الجوع التي يجريها التصنيف المرحلي المتكامل. وتساعد هذه التقديرات البلدان المانحة على تحديد كيفية توزيع التمويل.
وعندما جمعت وكالات الأمم المتحدة بيانات لمسح التصنيف المرحلي المتكامل خلال عام 2023، اختار الحوثيون بأنفسهم عدداً من جامعي البيانات وفقاً لثلاثة محللين للأمن الغذائي شاركوا في العملية. وذكروا أيضاً أن الحوثيين حددوا الأسر التي سيشملها المسح.
مكَّن ذلك الحوثيين من تضخيم مشكلة الجوع، بحسب ما ذكرت "رويترز" العام الماضي. وفي حين حاولت بعض الحكومات التي تواجه أزمة جوع التقليل من حجم المشكلة، فعل الحوثيون العكس، وبالغوا في ذلك في محاولة لجذب مزيد من التمويل الإنساني.
ولتقليل تدخل الحوثيين في جمع البيانات، اعتمدت منظمات الأمم المتحدة على جمع البيانات من بعد من خلال المكالمات الهاتفية مع متلقي المساعدات لتقييم مستويات الجوع.
ورداً على سؤال حول سيطرة الحوثيين على جمع البيانات، قال عامر إن أية معلومات تُجمع من السكان "جزء من الأمن القومي للبلد وهي من اختصاص الدولة".
ولم يعلق التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي على هذه القصة.
وحينما تواجه الأمم المتحدة قيوداً أو تحديات، تلجأ أحياناً إلى متعاقدين خارجيين لتولي مهام مراقبة توزيع المساعدات وجمع البيانات عن المستفيدين من أجل استهداف الفئات الأشد احتياجاً بصورة أفضل. وفي اليمن، كانت مهمة هؤلاء المراقبين هي الإشراف على مراكز توزيع المساعدات، وإجراء مقابلات مع المستفيدين، وتقديم تقارير إلى وكالات الأمم المتحدة والجهات المانحة في شأن أية انتهاكات تُرصد.
لكن الحوثيين أغلقوا فعلياً عدداً من هذه الجهات الرقابية، إذ داهموا مكاتبها واحتجزوا موظفيها. وقال 12 موظفاً في شركات مراقبة تعاقدت معها الأمم المتحدة لـ"رويترز" إنهم يخشون أداء مهامهم خوفاً من انتقام السلطات الحوثية.
واقتيد الرئيس التنفيذي لشركة "برودجي سيستمز" وهي إحدى شركات المراقبة الرئيسة، عدنان الحرازي، من مكتبه خلال يناير 2023، ووضع في الحبس الانفرادي واتهم بالتجسس لمصلحة دولة أجنبية. وخلال يونيو 2024، حكم عليه بالإعدام وخُففت عقوبته لاحقاً إلى السجن 15 عاماً.
وقال أحد المراقبين لـ"رويترز" إن بعض المراقبين ينجزون العمل في منازلهم ويلفقون الإجابات عن أسئلة معيارية تستخدم لتقييم ما إذا كان المستفيدون من المساعدات يتلقونها بالفعل. وقال برنامج الأغذية العالمي إن "الأخطار التي تهدد سلامة مراقبي الجهات الخارجية غير مقبولة، وأثارت قلقاً بالغاً في شأن قدرتهم على أداء عملهم بفاعلية".
وذكرت وزارة الخارجية الأميركية أن الحوثيين يحتجزون حالياً أكثر من 12 موظفاً محلياً حاليين وسابقين تابعين للحكومة الأميركية، بناءً على "اتهامات كاذبة". واتُّهم الموظفون بالتجسس.
وتختلف الآراء داخل أوساط مانحي المعونة حول ما إذا كان ينبغي مواصلة العمليات الإنسانية في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. وأفاد ما لا يقل عن 12 موظفاً حالياً وسابقاً داخل الأمم المتحدة لـ"رويترز"، بأن عدم وضع خطوط حمراء واضحة للحوثيين جعل وكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة متواطئة فعلياً في السرقة الممنهجة للمساعدات، بواسطة الجماعة.
وأوضح الموظفون، الذين طلبوا عدم الكشف عن هويتهم، أنه على رغم الانتهاكات المتكررة من قبل الحوثيين، واصلت الأمم المتحدة عملياتها، مما سمح باستمرار سرقة المساعدات على نطاق واسع. وذكر ثلاثة من موظفي برنامج الأغذية العالمي الحاليين والسابقين وثلاثة مراقبين خارجيين لـ"رويترز" أن منظمات الأمم المتحدة تعرف منذ أعوام أن بيانات الأمن الغذائي مغلوطة لكنها مع ذلك واصلت جمع البيانات وتحليلها.
وقال المتحدث باسم برنامج الأغذية "دأب البرنامج على اتخاذ إجراءات فورية عند ظهور أدلة موثوقة على تحويل المساعدات أو سرقتها، ورد علناً عند الضرورة"، مشيراً إلى سلسلة من الإجراءات التي اتخذها البرنامج "لتحسين آليات الاستهداف وإدارة قوائم المستفيدين".
وأضاف أن البرنامج "اتخذ مراراً إجراءات سريعة عند الحاجة – بما في ذلك تعليق العمليات – لضمان وصول المساعدات الحيوية إلى مستحقيها بفاعلية وتأثير ملموس، ومن دون أي تدخل خارجي".
وتسرد دراسة داخلية أجريت بتكليف من برنامج الأغذية خلال يناير 2024 عدداً من أشكال إساءة استخدام المساعدات التي اشتكى منها يمنيون لـ"رويترز"، منها "المصادرة والاستيلاء على المواد الغذائية لإطعام المقاتلين"، و"حجب الغذاء كوسيلة ضغط لتجنيد المقاتلين"، وإجبار الناس على القيام "بأنشطة غير مرغوب فيها للحصول على المساعدات، مثل ترديد شعار الحوثيين".
وقال البرنامج إن الوثيقة "لم تنشر قط سواء كدراسة أو تقرير داخلي أو خارجي، لأنها لم تستوفِ المعايير العلمية".
"الطريق إلى الجنة"
فر عشرات الآلاف من المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين هرباً من الجوع أو شظف العيش أو السجن أو تجنيد أطفالهم في صفوف مقاتلي الجماعة. وما زالوا يواجهون أوضاعاً صعبة، إذ لا يجدون سوى قليل من الطعام وفرص العمل في مخيمات النزوح الواقعة داخل مناطق سيطرة الحكومة اليمنية.
وفي مدينة عدن الساحلية، تكافح الحكومة لتقديم الخدمات الأساس في أعقاب هجمات الحوثيين على مرافئ النفط. وأجرت "رويترز" مقابلات مع عائلات نازحة داخل عدن، وكذلك في محافظتي لحج ومأرب، فرت من مناطق الحوثيين وتعيش الآن على وجبة طعام واحدة في اليوم.
ويقول إسماعيل وهو أب لخمسة أطفال "إذا تناولنا وجبة الفطور، فلن نتناول الغداء. إذا تناولنا الغداء فلن نتناول الفطور"، مضيفاً أن مصدر دخله الوحيد هو جمع الزجاجات البلاستيكية لبيعها لورش إعادة التدوير.
وألقى وزير الإعلام معمر الإرياني باللوم على الحوثيين في الظروف القاسية بالمناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، قائلاً إنهم "يسرقون" المساعدات الإنسانية.
فرت فلة الهادي، وهي أم لأربعة أطفال، من مناطق سيطرة الحوثيين إلى عدن خلال عام 2021. ومثل عدد من الأمهات تقضي معظم يومها في جمع بواقي الأكل من المطاعم والتسول للحصول على المال.
قالت "نمشي مسافة بعيدة، نروح نجمع بواقي الأكل من المطاعم كل يوم".
وعلى رغم صعوبات الحياة، قالت إنها تستطيع النوم الآن بعدما زال خطر تجنيد أطفالها للقتال مع الحوثيين. وأضافت أنها كانت تخشى عودتهم إليها في توابيت.
وذكرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" أنه منذ عام 2009 في الأقل، دأب الحوثيون على تجنيد الأطفال بصورة ممنهجة في صفوف قواتهم. وأضافت أنه منذ اندلاع حرب غزة زاد عدد الأطفال المجندين بصورة كبيرة. وتقول الأمم المتحدة أيضاً إن بعض القوات الحكومية جندت أطفالاً، لكن بأعداد أقل.
جند الحوثيون عبدالمغني السناني قسراً في سن العاشرة. وقال إنه تعرض للسجن والضرب والتلقين العقائدي.
وأضاف لـ"رويترز" في مخيم مأرب للنازحين داخل المنطقة التي تسيطر عليها الحكومة في اليمن، إنه تلقى تدريباً عسكرياً وكُلف بإيصال الإمدادات إلى جنود أطفال آخرين.
وأعد مدربوه الحوثيون الأطفال للموت، وقيل لهم إن الطريق إلى الجنة يمر عبر زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي.
يحكي السناني الذي يبلغ الآن 18 سنة "كانوا يقولون لنا ما في داعي للصلاة... كانوا يعطونا محاضرات ويقولون إن السيد عبدالملك (الحوثي) بالختم حقه ندخل الجنة".
وقال المتحدث باسم الحوثيين إن اتهامات الجنود الأطفال "لا أساس لها من الصحة" و"مجرد افتراءات". وأكد وزير الإعلام اليمني أن هناك "حالات فردية" لتجنيد الأطفال من قبل الجيش، لكن الحكومة "تعمل على محاسبة أية انتهاكات فردية قد تحدث".
وتقول عشرات العائلات التي فرت من مناطق الحوثيين، إنها عانت ضرائب ورسوماً باهظة فرضها الحوثيون.
لكن برنامج الأغذية العالمي ذكر أنه لم يعثر على "أدلة قاطعة" تدعم الادعاء بأن المساعدات الغذائية استخدمت لإجبار الآباء على تسليم أطفالهم ليصبحوا جنوداً في صفوف القوات الحوثية.
فتح أبو حمزة، وهو من قدامى المحاربين في الجيش وأب لخمسة أطفال، بقالة صغيرة داخل صنعاء لإعالة أسرته، لكن الضرائب المفروضة على أعماله قلصت دخله. واقترض حتى بلغت ديونه 5 ملايين ريال يمني (نحو 20 ألف دولار).
وقال إنه على الجانب الآخر من بقالته في صنعاء تكرر مشهد مراراً، شاحنات محملة بالمساعدات الإنسانية تحمل شعار برنامج الأغذية العالمي تدخل وتخرج من مدرسة يديرها حوثيون. وقال "الشاحنات تأتي في عز النهار تحمل المساعدات".
استمرت الضرائب في الارتفاع. وقال أبو حمزة إنه بينما أصبح يائساً، ضغطت عليه سلطات الحوثيين لحضور مسيرات الجمعة، إذ يملأ آلاف الأشخاص الشوارع. وطلبوا منه الانضمام إلى قواتهم والذهاب للقتال "كانوا يقولون نريدك معنا على الجبهات".
وقال عامر إن الحوثيين لم يفرضوا أية ضرائب جديدة منذ سيطرتهم على صنعاء خلال عام 2014.
وبحلول عام 2020 أفلس أبو حمزة وبدأ في بيع أثاثه وممتلكاته الأخرى بما في ذلك خنجر بمقبض ذهبي ورثه عن والده. وعندما نفد ما لديه من المال، كان يمشي إلى منطقة بعيدة من المنزل حتى لا يراه جيرانه ويقف أمام مسجد ويمد يده يطلب المال. وخلال عام 2021، فر مع عائلته إلى مأرب.
وقال "كلما أتذكر يؤلمني قلبي".
رويترز