يوليو في الذاكرة العُمانية

 قبل مغادرة يوليو وذكراها العظيمة في تأريخ عُمان الحديث كان لا بد من الوفاء لهذا التأريخ المجيد الذي أشرقت فيه شمس النهضة العُمانية، والوفاء بالتأكيد هنا لمؤسس نهضة عُمان الحديثة ومفجر طاقاتها وعزائمها جلالة السلطان قابوس ين سعيد – طيب الله ثراه.

هذا الزعيم التأريخي الذي قدر الله له أن يحمل رسالة عظيمة يؤديها على أكمل وجه ناشراً الخير والسلام والاستقرار والازدهار في بلده وداعماً لقضايا أمته.

 نعم لقد تباينت أطوار التأريخ على عُمان منذ عهد مالك بن فهم الأزدي قبل الإسلام عندما عرفت عُمان كأحد الاقطار القديمة في شبه الجزيرة العربية مروراً بالعهد الإسلامي واستمراراً في  عصور ومراحل التأريخ وصولاً الى التأريخ الحديث والمعاصر.

 ومع تباين مراحل وأطر الحياة في عُمان صعوداً وتراجعاً إلا أن عُمان تمتلك من المتانة التأريخية والحضارية ما جعلها تتجدد في كل زمان وتبشر كل عصر بأنها ولادة وقادرة على استعادة مشاعل الرقي والازدهار وذلك عندما تتوفر العناصر والأدوات اللازمة.

فعُمان التي تأسست قبل الإسلام على يد أولئك الأوائل من القادة العظام عبر مختلف العهود والآسر الحاكمة ظلت تضرب موعداً مع التأريخ لتجدد مسيرة نهضتها نحو صدارة الركب متكئة على رصيدها التأريخي والحضاري والديمغرافي، فضربت عُمان موعداً وعلامة فارقة فجر ٢٣ يوليو ١٩٧٠م، ذلك الفجر الذي تولي فيه جلالة السلطان قابوس مقاليد الحكم في عُمان لينقل عُمان من مرحلة تراجع الى أخرى تلامس آفاق السماء.

 وقاد جلالته حركة اصلاح كبرى فأعلن أن عُمان تعود مجدداُ الى مقدمة الركب وقد تجاوزت ظلام الماضي الذي ساد فيه الجهل والفقر والبؤس إلى مستقبل أرحب مشرق بالنماء والعطاء والمعاصرة.

 هكذا كانت إرادة الله في هذا المنعطف التأريخي على يد هذا الزعيم التاريخي الكبير في ظرف استثنائي دقيق كان يحيط بهذا البلد، فأشرق عهد الخير على يد جلالته – رحمه الله، وجزاه عن عمان وأهلها خير الجزاء .

الحديث عن الماضي (منذ رحيل السلطان سعيد بن سلطان) يدركه الجميع حيث تراجعت عُمان وعانت ظروف سياسية واقتصادية صعبة وفي المراحل الأخيرة ومع اشتداد ظروف الحربين العالميتين وظروف عُمان الداخلية حيث زاد الانقسام في الداخل وتفشى الجهل والفقر والعوز مع انعدام سبل الحياة الكريمة فعاش العُمانيين في ظل ظروف معيشية صعبة وقوانين مشددة، وفرضت الهجرة القسرية نفسها على العديد من أبناء الوطن، وكان الداخل العُماني مشوباً بالنظام القبلي والصراعات والانقسام الوطني داخل الجغرافيا العُمانية، فيما كانت الثورة تعصف بجزء عزيز من أرض الوطن العزيز، والحياة قاسية زاد من شدتها الحالة الاقتصادية للدولة العُمانية ووجود نظام الأمامة الموازي لنظام السلطنة، حتى أذن الله أن يشرق فجر عُمان على يد السلطان قابوس.

 وفي تأريخ فاصل انتشل فيه عُمان وسخر هذا القائد كل حياته من أجل احداث هذا التحول وتحدى المستحيل للصعود ببلده الى مستوى متقدم من النهضة والمعاصرة والانفتاح ليشكل ملحمة عٌمانية عظيمة في زمن وجيز .

عملية الانتقال بعٌمان في ظل تلك الظروف القاهرة لم يكن بالأمر اليسير، ولكن إرادة المولى عز وجل كانت قدراً مقدوراً.

 فقدرت المشيئة الإلهية الاسباب لذلك التحول الكبير على يد تلك القيادة الشابة الشجاعة الحكيمة فسخره الله لاحداث ذلك التحول التاريخي على أرض عُمان، وانتقل بعُمان منذ تلك اللحظة الى المستقبل المشرق وقد أدرك أبناء الشعب العُماني بفطرتهم السليمة وذاكرتهم الحية منذ الوهلة الأولى أن عُمان تشهداُ تحولاُ تأريخياُ حقيقياُ لا بد من التواءم معه والانسجام في مسيرته والعمل من أجل حياة افضل لعُمان، فاستقبلت أنباء تولي جلالته بمسيرات حاشدة احتفت بذلك القائد الملهم من أقصى عُمان الى أقصاها.

 فكان حدس أبناء الوطن صادقا، فانتقلت البلاد من ظلام الماضي الى نور المستقبل، وأعاد السلطان قابوس لعُمان هيبتها وعنفوانها وازدهارها، فحرص السلطان على إلغاء تلك القوانين التي يرزح تحتها أبناء الوطن.

ثم أطلق نداءه الى أبناء عُمان في الخارج للعودة والمساهمة في البناء مؤكداُ أن عهداُ جديداُ أطل على بلادهم، واستقبل المواطن العُماني في الداخل والخارج ذلك النداء الأبوي بروح وطنية وثابة، وانطلقت الجموع في ركب النهضة.

 وأطلق السلطان قابوس دعوته الى قيادات الثورة للمصافحة والمضي جميعا في بناء الوطن للقضاء على أسباب تلك الثورة وتحقيق طموحاتهم، فحقق جلالته بحنكته السياسية وحكمته الأبوية نتائج ملفتة، فتحول الجميع نحو  بناء عُمان، كل ذلك تزامن مع انهاء العزلة عن عُمان والانفتاح على الخارج وبناء علاقات دولية متينة مع الاشقاء والاصدقاء والمؤسسات الدولية والقوى العالمية.

 فانضمت عُمان الى جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة، وبتاريخ ١١ ديسمبر ١٩٧٥م أعلن السلطان قابوس الانتصار على قوى التمرد والرجعية، ثم بدأ جلالته في خطط التنمية فسابق الزمن لبناء نهضة عُمان الحديثة، واستكملت مسارات التنمية  ومنظومة الدولة وتوفير الخدمات في بلد يسود تضاريسه الجبال والوديان والسهول والبحار.

 واللافت أن التحولات التي حدثت خلال السنوات الاولى من عمر النهضة فاق كل التوقعات.

 ثم بدأ جلالة السلطان قابوس جولاته السنوية متفقدا أحوال شعبه وبلده في مختلف قرى وأرياف عُمان، بعد أن مهد الاسس الاجتماعية والفكرية والهوية الوطنية تحت مظلة وطن واحد مكرساً قيم المساواة والعدالة والتسامح والقيم الوطنية النبيلة، مما جعل أبناء عُمان يداً وأحدة في مسيرة البناء.

ذلك البناء الذي لم يكن مادياً وعمرانياً فحسب بل شمل بناء الانسان العُماني فكراً وثقافة وهوية ليشكل جلالته النموذج العُماني المتمسك بعاداته وقيمه وأرثه الحضاري كما كان ينشده جلالته.

 تلك الملحمة العظيمة يمكن وصفها بالمعجزة خلال العشرية الاولى والثانية من حكم جلالته، فأصبح المواطن العُماني بعدها يسير واثق الخطى نحو المستقبل، وبعد الاطمئنان على منظومة الدولة التي شكل دعائمها جلالته ورسخ قواعدها الرصينة وحقق انسيابية في أداء الحكومة العُمانية، وقد تزامن تركيز السلطان قابوس على بلده مع نظرة فاحصة على قضايا أمته ايضاُ.

 لذا فإن ما حققه قابوس خلال تلك السنوات القليلة لم يكن ليتحقق لولا الجهد والاخلاص والاصرار والصفات القيادية التي تجلت في شخصية السلطان قابوس – أكرمه الله  فارتبطت عُمان بهذا القائد الملهم الذي سخر كل حياته من أجل استقرار وازدهار بلده وتصويب مسارها نحو المستقبل .

لم يغفل جلالة السلطان قابوس المحيط الخارجي العربي والدولي فكان حريصاً على تكريس سياسة حكيمة مع الاشقاء والأصدقاء متكئا على رصيد سياسي وقيم حضارية تضبط التفاعل العُماني مع المحيط الخارجي.

 فكانت نظرته الانسانية تحكم سياسته الخارجية، وظهر ذلك جلياً من خلال محاولاته الدؤوبة لرأب الصدع بين الاشقاء في المنطقة العربية والاسلامية.

 وكانت البداية مبكرة بدعم جبهات القتال العربية في حرب أكتوبر ١٩٧٣م لاستعادة الحقوق العربية حيث أعلن جلالته التبرع بربع رواتب الموظفين، وأرسل بعثتان طبيتان الى جبهات القتال، وشاركت عُمان في قطع النفط عن الدول الداعمة لكيان الاحتلال.

 وفي نهاية عقد السبعينيات كان جلالته – رحمه الله من القادة القلائل الذين أدركوا ببعد نظرهم تبعات قطع العلاقات العربية مع مصر بعد اتفاقية كامب ديفيد مدركا أن المعالجة ليست بقطع العلاقات بين العرب، وظل يطالب بعودة مصر الى الحضن العربي وعودة العرب الى مصر وبالفعل تحقق ذلك.

 وفي الحرب العراقية الايرانية نأى جلالته ببلده عن المحاور في دعم أي طرف على حساب الآخر.

وكرر في أكثر من مناسبة دعوة العراق وايران الى وقف الحرب وأرسل وزير خارجيته في زيارات مستمرة الى العراق وإيران والتي اسهمت لاحقاً في تقريب المسافات بين البلدين.

 وفي الثمانينيات قدم السلطان قابوس مقترحه بتشكيل الجيش الخليجي الموحد لكن ذلك المقترح لم يجد آذاناً صاغية ثم حدثت كارثة الغزو العراقي للكويت وكان موقف جلالته ثابتاً مع دولة الكويت، وكذلك أسهم جلالته بفكره السديد في مساندة الشعب العراقي من خلال مقترح مبادرة النفط مقابل الغذاء لمحاولة رفع المعاناة عن أبناء الشعب العراقي في الحصار الذي دام ثلاثة عشر عاماً.

 وهناك الكثير من المواقف السياسية التي عبر عنها جلالته من جوانب انسانية، وفي عام ٢٠١٥م كان للسلطان قابوس دوراً مشهوداً بجمع الطرفين الإيراني والأمريكي في مسقط لتوقيع اتفاقية اطار للاتفاق النووي بين إيران ومجموعة ٥ + ١ مؤكداً على دوره المحوري في تدعيم السلام والاستقرار في المنطقة.

 ولا ننسى أيضا الدور العُماني المتوازن في الأزمة السورية خلافاً للسياسات التي انتهجها بعض الأشقاء العرب.

 وكذلك هو الحال في القضية اليمينة حيث كانت السلطنة نافذة ورئة يتنفس منها الأشقاء في اليمن خلال الأزمة الطاحنة التي عصفت باليمن، فكانت توجيهات جلالته بتجاوز كل الحدود الممكنة لانتقال الاشقاء اليمنيين الى عُمان، وما قدمته عُمان هو من صميم الواجب تجاه الأشقاء في اليمن.

 أما عن فلسطين فإن السلطان قابوس كان أكثر الزعماء العرب دعما للقضية الفلسطينية سواءً عبر المنابر الدولية وكذلك في إطار الدعم الإنساني، ولا شك أن أبناء فلسطين يدركون تلك الاسهامات التي قدمتها يد جلالته وهو من قبيل الواجب العروبي والإنساني، وما تقدمه تجاه الامة العربية والإسلامية مبنياً على الاصول السياسية التي أسسها جلالة السلطان قابوس مكرساً مدرسة سياسية جعلت العالم ينظر لبلده بمزيد من الأحترام والتقدير .

٢٣ يوليو ١٩٧٠م يوماً فارقاً في تاريخ عُمان، ولا شك أن استذكار هذا التأريخ ليس احتفالاً تقليدياً بقدر ما هو وفاءً لهذه الشخصية التأريخية العظيمة التي تولت مقاليد الحكم في هذا التأريخ.

 فقدمت ملحمة كبرى في تأريخ عُمان، ومن هنا استوجب الاستئناس بمؤسس نهضة عُمان الحديثة السلطان قابوس بن سعيد _ طيب الله ثراه حبيب الشعب والوطن ويجتمع العُمانيين على حبه، وذكراه تشحذ همم العمانيين نحو البناء في نهضة متجددة يقودها السلطان هيثم بن طارق – حفظه الله.

 وفي هذه الذكرى ندعو الله أن يتغمد قابوس بواسع رحمته في روح وريحان وجنة نعيم وجزاه عن عُمان وأهلها خير الجزاء وأن يوفق السلطان هيثم لاكمال مسيرة الخير وتجديد نهضة عُمان والله نعم المولى ونعم النصير .

* إعلامي وكاتب عُماني
khamisalqutaiti@gmail.com