"طوفان الأقصى" وترميم الوعي العربي

عندما أجدُ عددًا من أبناء جلدتنا من عرب زماننا ومن مختلف الشرائح يتبادلون عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقولات صهيونية تنسِب الحكام والقادة العرب إلى اليهودية والصهيونية والعمالة للغرب، وعندما أجدُ من يستشهد بمقولات الصهاينة بن جوريون وجولدا مائير وموشي دايان وشامير وشارون من عتاة الإجرام الصهيوني ومؤسسي الكيان عن العرب وعن قوة الكيان الصهيوني و"طهارته" وسلمية نواياه ووحشية العرب، وعندما أجدُ اليوم من يتناقل رسائل وتصريحات الصهاينة إيدي كوهين وأفيخاي أدرعي ويسوقونها وكأنها وحيٌ من السماء، وكأن هؤلاء الصهاينة رُسلٌ مُطهَّرون، أتيقنُ أن حجم الاختراق الصهيوني للعقل العربي وصل إلى عمقٍ خطيرٍ جدًا، بحيث لم يعُد يفرز هذا العقل بين الحق والباطل والصديق والعدو؛ بل أصبح مُنتَجًا بارًا لهذا الغثاء والغي وبلا وعي منه!

في المقابل، لم يستوعب بعد طيف واسع من عرب زماننا، ولم يفق بعد من المخدرات العقلية الفاخرة التي يسكُبها الإعلام الغربي- الرديف الصهيوني- في عقولنا ليقمع وعينا ويحاصر عقولنا كي يقنعنا أن الباطل يمكن أن يكون ويتحول في لحظة ما إلى حق، وأن الحق يمكن أن يكون ويتحول في لحظة ما إلى باطل.

يُحدِّثُنا التاريخ أن السفسطة فلسفةٌ قامت على قلب الحقائق والمسلمات، وأن السفسطائيين هم قوم امتهنوا ذلك بمقابل مدفوع لهم؛ حيث كانوا يمتلكون قدرات كلامية ولحنًا لفظيًا كبيرًا لإقناع مستمعيهم ومن يستهدفون، بأن العسل مُرٌ والحنظل حلو، وأن الجمال قُبح، والقُبح في أصله هو الجمال!

وهذا يُذكرني بقصة شاب مصري عرضها على الدكتور مصطفى محمود- رحمه الله- وأوردها الدكتور مصطفى في أحد كتبه، مفادها أن هذا الشاب تزوج من فتاة آية في الجمال، وعلى قدر عالٍ من الأخلاق والعفة والاحتشام، ولكن تسبب له جمالها في نكد دائم ويومي بفعل لفتها للنظر بجمالها الساحر في كل مكان يقصدونه، وتعرضها للمعاكسات والألفاظ المستفزة له؛ الأمر الذي حوّل حياة الشاب إلى جحيم يومي لا يُطاق، فأصبح زبوناً شبه دائم لمراكز الشرطة بفعل ردود أفعاله اللفظية أو البدنية تجاه المُتحرِّشين بزوجته العفيفة الشريفة. وتحت تأثير مسلسل النكد اليومي والضغط النفسي الكبير، قرر هذا الشاب الانفصال عن زوجته، وقرر من باب ردة الفعل والعظة البحث والزواج من أقبح فتاة يراها، وبالفعل وجد الفتاة وعاش معها شهر عسل هادئ وبلا مُنغِّصات، وبعد انقضاء الشهر بدأت زوجته في كشف مواهبها المدفونة والتي لا تقِل في نكدها عن طليقته الفاتنة، ولكن بطرق عكسية وسالبة؛ حيث كانت الزوجة تقضي ساعات طويلة ومملة أمام المرآة يوميًا لإظهار جمالها وإخفاء قبحها،

وما أن ترافق زوجها في الأماكن العامة حتى تبدأ بمعاكسة المارة من الشباب والعمل على لفت أنظار المارة لها، لم يحتمل الشاب هذه الحياة وقرر طلاق زوجته، وكتب معاناته إلى الدكتور مصطفى محمود تحت عنوان "كرهت جميع النساء" يريد حلًا منه، فلم يجد الدكتور مصطفى من رد أو حل لهذا الشاب البائس سوى كتابة عبارة تحمل ردًا على عنوان رسالته وهي: "والله العظيم عندك حق".

المراد من هذه القصة- الخارجة عن النص في نظر البعض- أن هذا الشاب ومن واقع تجربته المريرة وحظه وقسمته في الزواج يمكن جدًا أن يتحول إلى شخص سفسطائي يقلب الباطل حقًا والحق باطلًا بالدليل والبرهان الذي عاشه شخصيًا، ولكن بكل تأكيد لن يتعدّى تأثير كلامه العقول السطحية الهشة التي تتسم بالبعد الواحد وترى الحياة باللونين الأبيض والأسود فقط وتلغي الألوان الزاهية والوجوه الأخرى فيها.

بالعودة إلى عنوان المقال.. أقول إن طوفان الأقصى نجح إلى حد كبير في ترميم الوعي العربي المعاصر، هذا الوعي الذي تكالبت عليه جميع الظروف الموضوعية والافتراضية لهزيمته حتى أصبح يرتل طقوس الهزيمة وغي الأعداء بفعل نظريات قمع الوعي وحصار العقل التي تُسكب كل يوم في عقول عرب زماننا بلا رادع أو مقاوم لها أو تحصين منها.

قبل اللقاء.. الشعوب اليوم على دين إعلامها وتعليمها. 

وبالشكر تدوم النعم...

*سياسي وكاتب عُماني
Ali95312606@gmail.com