تنهيدة المرشدي الأخيرة!

ستمرّ مئات من السنين قبل أن تُنبت هذه البلاد أو تنجب قامةً فنيةً في مستوى قيمة وقامة فنان اليمن العبقري الراحل الكبير محمد مرشد ناجي. ما أجمل هذا الاسم! محمد مرشد ناجي! كأنك تقول هنا اليمن! عذوبة إنسانه وعذابات أحزانه. بساطة ريفه وروعة جباله. عطر كريتر, وبخور الشيخ عثمان ، مشاقر تعز , وشاي الصباح في مشنّة إب القديمة ، شذاب وادي بنا, وشرفات صنعاء, فُل لحج وبرعة يافع .. وادي حضرموت وسهول تهامة رِئتا اليمن الكبير يرفرفان في صدر فناننا الراحل النادر.  
أسمعُ أغنية "هل أعجبك يوماً" فأتساءل : هل سمعتَ يوماً عزفاً كهذا العزف لأغنيةٍ يمنيةٍ تراثية! نقاءٌ وصفاءٌ وهندسة! لدينا في اليمن فنانون عظماء في العزف على العود.. ولكن, لا أحد استغل عزفه المعجز في غناء التراث كما فعل المرشدي, وكما فعل بامتياز فيصل علوي تحديداً في عزفه للأغنية الصنعانية واللحجية .. ثم يأتي الفنان الكبير محمد حمود الحارثي الذي  يعزف ألحانه التراثية ترفاً فنياً فائقاً متفوقاً حتى كأن عوده تختٌ فخمٌ باذخُ النغمة والنعمة!  آخرون كبار, يعزفون, يُهوّمون بعيداً وقريباً من المشاقر, ويطيرون صوب ذرى رائعة, قد تصل بهم إلى التفوق! وبعضهم قد يصل إلى العالمية في تكنيك العزف, والاستعراض, وقد وصلوا!
 والأحمدان أحمد فتحي وقبله أحمد بن أحمد قاسم هما ذروة هذا العزف. 
لابد من الإشارة هنا إلى عملاق العزف على العود الفنان علي بن علي الآنسي باعتباره أحد أهم عازفي العود في اليمن ، سواءٌ في عزفه للتراث وأغنية " قلت اسقني " نموذجٌ باهرٌ في عزف التراث الفلكلوري ، أو في ابتكارات الآنسي اللحنية وأغنية "سيلاه" نموذجٌ لعزفٍ عبقريٍ معجزٍ مرتجلٍ في معظمه حتى أنه اشتكى لصديقه الفنان علي أحمد الخضر قائلاً " العود ما عد بيسعنيش ". بمعنى أن العود لم يعد يسعني!
وهذا يذكّرني بقول الصوفي العظيم النِفَّرِي " إذا اتسعَتِ الفكرة ضاقت العبارة
إنّ من يتأمل شخصية المرشدي الفنيّة والإنسانية سيكتشف ميزاتٍ خاصة بعضُها موجود لدى كثير من الفنانين وبعضُها تميَّز بها عن غيره ومنها الجمع بين: السياسة, والثقافة, والكتابة, والتأليف, وقوة الشخصية, والاعتزاز بالنفس وبالبلد, ولديه أيضاً ميزة الذكاء,.. وفي العادة, فإن الفنانين أرواح أطفال, وهم شديدو البساطة, وعندما يكونون أذكياء أقوياء الشخصية يكون ذلك على حساب فنّهم وإبداعهم إلّا المرشدي وقبله عبدالحليم حافظ .. لقد توازى لديهما وتساوى ذكاء الشخصية وقوّتها, مع موهبة اختيار الألحان العذبة بالدرجة الأولى ولعل ذلك أن يكون مكمن نجاحهما!  
تقول العرب عن بعض الشعراء, شاعرٌ مُقِلٌّ مُجيد, وأستطيع أن أقول عن المرشدي فنانٌ مُكثِرٌ مُجيد, ويقاسمه هذه الصفة الفنان الكبير أيوب طارش بمعنى أنه مكثِرٌ مجيد وأنّ رديئه قليلٌ ولا يكاد يُذكر! 
المرشدي كان يسهر على عمله, ويتعب, ويُدقِّق, وينقّح وليست المسألة لديه مجرّد هاجس أو خاطرة فنية أو سهرة مع الأصدقاء, ولحن على الماشي كما فعل ويفعل كثير من الفنانين. قلت له مرّة في جلسةٍ خاصة وكنتُ مع الدكتور عبدالعزيز المقالح: إنني مشتاق أن أسمع" يا جارة الوادي" لمحمد عبدالوهاب وأحمد شوقي بعد أن شطّرها الشاعر محمد سعيد جراده – وشطّرتها أنت لحناً مضافاً إلى لحنها .. وكنتُ قد سمعتها من المرشدي قبل سنوات في جلسة سابقة- فأجابني: " هذه أغنية تريد لياقة خاصة". وردّه ذاك واعتذاره دلالةٌ على معرفته وتقديره وشعوره بالمسؤولية الفنية لما يقدمه.
آخر لقاء معه, كان قبل أشهر من وفاته وكان على سرير المرض في مستشفى لبنان في صنعاء إثر عملية جراحية لقلبه الفنان. وعندما وقفتُ إلى جانبه وأنا أحاول التخفيف عنه وطمأنَتَهُ نظر إلي وتنهّد تنهيدةً مثل رفيف طائر قائلاً : كنتُ في مستشفى العُرضي وتلقيتُ علاجاً ممتازاً لعشرة أيام .. وأضاف: مستشفى العُرضي لا يوجد مثله في الجزيرة العربية! وأكمل بالقول: وفجأةً بعثوني إلى هنا إلى مستشفى لبنان لأكمل العلاج! وختم : يبدو أن العلاج هناك مُكلِف والمستشفى خاص بالرئاسة فقط! 
بعدها بأشهُر بعث إليّ الفنان الكبير هديّةً أعتزُّ بها: شريط كاسيت طولهُ تسعون دقيقة وهو عبارة عن مختاراتٍ غنائية لنفسه وكتب على جانب الشريط "إلى الحبيب خالد" وقائمة مرفقة بأسماء الأغاني كتبها بخطه الجميل,.. أما الشريط الآخر فقد عنونه بخطه أيضاً " أدب الحوار عند العمالقة" وهو عبارة عن تسجيلات حوارية سجلها من الإذاعة المصرية على الهواء بين الفنانَين العربيين الكبيرين محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش في حوارهما واختلاف رؤيتهما الفنية. وفطنتُ إلى ما يهدف إليه فناننا الراحل الكبير, وما يحسّ به, ويعاني منه وهو يرى بعينيه نهايات الأحلام في البلاد وقد تحوّلت إلى كوابيس, ومآلات الآمال وقد انتهت إلى سراب!
لقد شهِد الفنان الراحل ولادة الأحلام الكبيرة منذ ما يزيد على ستين عاماً, ولفظ تنهيدته الأخيرة الحزينة, وشهقة دعائه راجياً كل خيرٍ لبلاده. كأنه يريد أن يقول للجميع:  تعلّموا كيف يكون الحوار والتعبير عن الخلاف والاختلاف! 
في ورقته المرفقة بالشريط من مختاراته, أشار إلى أن الأغنية الأولى هي للشاعر المصري الشهير أحمد فؤاد نجم, الذي كان في عدن ذات يوم. ولعلّه كان هارباً من السادات بعد كامب ديفيد أواخر سبعينيات القرن العشرين.
قصيدة "ورق ورق.. يا وطن على الورق" قصيدة باللهجة المصرية, عدنَنَها المرشدي ويمنَنَها! وهي نادرةٌ مغمورة مطمورة, لا أظن الكثير قد سمعها, وإذا سمعها لا أظنه قد فطن إلى ظرف كتابتها وتلحينها وغنائها, بعد لقاء الرجلين الشاعر الهارب والفنان الحساس في هجير عدن السياسي اللاهب أواخر سبعينيات القرن الماضي.
وكأنّ الأغنية تعبيرٌ عن حزن الرجلين وتشاؤمهما من وقائع ما يحدث وما سيحدث في القاهرة وعدن في تلك السنوات العاصفة بعد زيارة السادات لإسرائيل! ..في قلب عدن يكتشف الشاعر اليساري الشهير أحمد فؤاد نجم انكسار الأحلام ومرارة الأيام ، ويلخّص ذلك في سطرٍ شعريٍ واحد: 
حِلمي انسرق .. غرقان عرَق!  
 هنا القصيدة/الأغنية كاملة:
ورقْ ورقْ
يا وطن على الورقْ 
الحلم فيك على الورقْ 
والعلم فيك على الورقْ
خدعني فيك صوت الورقْ
وسافرت فيك على الورقْ
وحلمت فيك برَّى الورقْ 
بستان ظليلْ وقُلّه للعطشان سبيلْ
وقالوا حلمك مستحيلْ 
حتى لو كان على الورق 
مقهورْ وماشي في الورقْ
غرقانْ عَرَقْ 
حلميْ انسرقْ
حامل على قلبي الهوى
من غير دوى
إلا الورقْ