من مذكراتي في وجه الفساد والاستبداد..!

الإهداء: إلى المعتقلين الأحرار عبدالوهاب قطران وأبو زيد الكميم ورفاقهم في غياهب السجون.. لكل الأحرار وعشاق الحرية أينما كانوا.

لستُ من يعجب بقائده بسهولة.. أزدري منافقة القادة إلى حد بعيد.. لا اتملق ولا أشهد الزور.. لست من يحب قائده من أول وهلة.. أعيد النظر والتقييم مراراً.. أمقت المتملقين والانتهازيين والوصولين..

 لا أزجي المديح ولا أميل للإطراء، إلا بقدر ما يستحقه القائد، وما يثيره فيني من إعجاب ودهشة، وما لديه من مصداقية وتواضع ونكران ذات.

لا أشطح ولا أبالغ ولا أبحث في القائد عن الكمال، ولكنني أبحث عن الأفضل الذي أجد فيه استحقاقاً أن يكون نموذجياً ومثالياً في حدود الممكن لا المستحيل.

لا أبالغ في المثال الذي أبحث عنه.. أتفهم عيوب ونواقص البشر، وأعرف أن مقاربة الكمال أو المثال الخالص هو طلب أكبر من المستحيل، بل لا وجود له حتى وإن كان في صورة نبي أو ملاك.

لست عدمياً فأنا أستطيع أو أحاول أن ألتمس الأعذار للآخرين، وأتفهم أسبابهم، وأحاول البحث حتى في الأشرار عن محاسن وفضائل وبقايا ضمير ربما لا يراها الكثيرون.. كل شيء يبدو لي نسبياً في هذا الوجود حتى الحقيقة بل والوجود ذاته.

***

ومع هذا نعيش اليوم ما هو أكثر سوءاً ورداءةً وكارثية.. يتم فرض الفاسدين علينا كقادة ورئاسة وإدارة..

 يلقون بعقدهم وذاتيتهم ورغباتهم اللزجة في وجه نقائنا وصدقنا وما نبحث عنه من عدالة.. 

يفرضون علينا بما يملكونه من سلطة وغلبة مخرجاتهم المنتنة، وفسادهم الأكثر نتانة، وجهلهم الأشد من الجهل نفسه.

يتم توجيه ما يملكونه من غلبة وصلاحيات مغتصبة لابتزازنا وإذلالنا بحقوقنا, واستغلال حاجاتنا وعوزنا وفقرنا برغبة تحويلنا إلى قفازات, ودُمى بلا وعي ولا إرادة ولا حياة، ثم دون خجل ولا حياء يقذفوننا بالباطل والادعاء المفتري أننا من نبتزهم.. يا لهول ما نعاني.

كل يوم وأنت تعيش حالاً متعفناً كهذا الذي نعيشه، وفساداً أشد فتكاً من الوباء والحرب.. يحاصرك من كل صوب واتجاه.. يسد في وجهك أبواب الله وسبل الهرب والنجاة.. 

يغلق عليك كل المنافذ والطرق، ويثقل كاهلك بما هو أشد ثقلاً من الجبال، ولا يترك لك حيلة إلا وصيّرها أمامك محالاً في محال.. حال كهذا وأنت تجمع أشتات صبرك من أقصايه، قليل ودونه أن تتخيل نفسك وأنت تأكل شعر رأسك وإبطيك.

***

اليوم صار قوادوا الفساد قادة.. ومن جاء خلف أسوأ بعشرة أضعاف من سابقة.. وبطولة الفساد جائحة.. لا يولّي الفاسد ويحميه إلا من هو أفسد وأكبر منه.. 

صار الفساد الكبير هو من يرسم السياسات ويفرضها, ويمنهج مراحلها خطوة بخطوة.. بات الفساد حاكماً ومُكرساً بإمعان أشد.. صار وسطاً ومحيطا وبيئة.

كان الفساد يرتعد إذا ما وجهتَ اليه سبابتك.. يخجل إذا رميته برمش عينك.. أما اليوم فصار الفساد مهولاً ومرعباً وعريض الاجتياح.. إنه تيار جارف لا يُقاوم.. منظومة قوية محمية بالسلطة والغلبة والأمر الواقع.

صار للفساد قادة أفذاذ، وصارت السلطة كلها بعضاً من يديه.. أينما توجه وجهك تجد الفساد العريض فاغراً فاه.. فك مفترس إن لم تأت إليه، هو يأتي إليك متوحشاً على أربع.. الخياران أسوأ وأمر من بعض.. صار الفساد في هذه البلاد ابتلاء يشبه القدر.

منظومة الفساد باتت هي من تأمر وتؤمّر، ولها كلمة الفصل في الصغيرة والكبيرة.. صار الفساد المهول في هذه البلاد المنكوبة به وبقادته، مطلق السلطة, واليد والعنان.. استبداد وطغيان أكثر بطش وغلظة.

***

أكثر الذين أعجبت بهم في الكلية العسكرية، هو قائد الكلية أحمد صالح عليوة من محافظة شبوة.. 

وجدته قيادياً فذاً وممتلئاً وصادقاً، وعلى مستوى عالٍ من الوعي والمسؤولية، ولا يعمد إلى فرض شخصيته إلا بوعيه وحنكته وتواضعه، وتميّزه، وما لديه من حكمة ومصداقية وشجاعة، وحيوية ونشاط وألق وجاذبية.

كان أحمد صالح عليوة قائداً عسكريا وتربويا محنكاً.. يمتلك شخصية قوية وجذابة تخطف إعجابنا وحبنا الكبير.. دأب يغرس في أعماقنا الاعتزاز بالنفس والثقة, والشجاعة وقوة الشخصية.. 

مازال صوته الجهوري حياً في مسمعي وهو يقول: "طالب اعتز بنفسك.. ارفع رأسك.. أنت قائد.." كنت معجباً به، بل وأرى أنه أجدر من يستحق أن يكون قائداً لجيش بلد تستحقه.

كان يمتلك قدرة قيادية فذة ومؤثرة، ويحظى باحترام وتقدير من يقودهم.. سمعت بعد سنوات أنهم أهملوه وحطموا ذلك القائد الفذ.. حطمه الفاشلون.. قالوا إنه أصيب بحالة نفسية، ثم رحل ليترك عالماً من الفاشلين.. 

آه يا بلد.. رجالك المخلصون والقادرون ينتهون إلى الجنون والضياع، أو إلى ركام وحطام، فيما كثيرون من التافهين ومن لا يستحقون يعترشون مواقع المسؤولية الرفيعة قد استبدوا وقادوك إلى الحروب والضياع والمآسي العراض.

***

كانت فصيلتنا هي الأولى مشاة، إنها من قوام ثلاث فصائل مشاة، والمشرف على الفصيلة هو الملازم عبد الرقيب ثابت الذي يدربنا مادة التكتيك أيضاً، والحائز على المرتبة الأولى في دفعته الثامنة.. 

أردت أن أكون مثله الأول في دفعتي العاشرة.. أعجبت به لأنه كان يميل للإقناع والإفهام، ولا يذهب إلى طرق القسوة المُذلة التي تهتك المشاعر وتنتقص من كرامة الإنسان كما هو الحال لدى بعض أقرانه، وذلك على حساب صناعة الوعي والرفع من شأنه.

اليوم هذا القائد لم أعد أسمع به، وإنما صرت أسمع عن قادة امّعات دون وعي, أو فكرة أو موقف أو ضمير أو انتماء للوطن.. قادة صغار أتباع منقادين, آخر حسابات لديهم هو الوطن الذي نبحث عنه.

رفع الوعي هو الأمر الذي أتعلق به، وأقابله بتقدير واحترام .. التعالي سلوك لا يروقني من الضباط، بل أشعر أن صاحبه يعاني من عقد نفسية ومركبات نقص عصيّة.. 

أحب تواضع القادة دون أن أنال من حزمهم الذي أتفهم ضرورته في الحياة العسكرية.. وعي القائد وحزمه الواعي هو من يأسرني، وليس الحزم المهلهَل بالثقوب والعورات.

روحي الثائرة والمتمردة لا تستكين للسلطة المستبدة التي تتغافل الوعي ورفع مستواه.. 

أتمرد على كل سلطة تتجاهلني، أو تقلل من شأني، أو تريد أن تلغيني، أو تستخف بعقلي، أو تصادر إرادتي وكينونتي.. 

القائد هو ذاك الذي يمارس الوعي ويرفع من شأنه، ويمتلك الصفات التي تؤهله وترفعه وتجعل منه قائداً بجدارة واستحقاق.