هل نزل الهولوكوست عن عرشه؟

 في العام 2000، بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد، ألقى إيهود باراك خطاباً اعتذارياً إلى شعبه، وكان آخر سياسي يذكّر بوجود "الجيران" في تل أبيب. بنبرة خائبة الظن قال إنه تأكد بنفسه أنه ما من شريك للسلام بين الفلسطينيين، ولن يوجد ذلك الشريك قط. أُسدل الستار على المسألة الفلسطينية، فلا معنى لمزيد من التفاوض مع شعب يرفض أن تكون له دولة. في آخر خمسة انتخابات جرت في إسرائيل اختفت المسألة الفلسطينية عن النقاش العام. وقبل أسبوعين من "طوفان الأقصى" عرض نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة خارطة للشرق الأوسط الجديد لا مكان فيها لفلسطين. لقد انتهى أمرها والتهمت المستوطنات ما يزيد عن 58 في المائة من مساحة الضفة الغربية (تشكل الضفة 20% من مساحة فلسطين). كما صار ممكناً تجاوز السؤال الفلسطيني من أجل علاقات طبيعية مع العالم العربي. ثم سنحت الفرصة، بعد السابع من أكتوبر، لوضع حدّ لفكرة فلسطين إلى الأبد. الجيران الذين يرفضون العروض السخيّة صاروا إلى نازيين، ما من غاية لهم سوى محو الشعب اليهودي. كلما أعطوا مساحة من الأرض جعلوها منصة للإرهاب، كما ردد نفتالي بنيت، رئيس وزراء إسرائيل السابق، في لقائه مع بي بي سي.

في مذكراتها "خيارات صعبة" تتحدث هيلاري كلينتون عن الجهود الضخمة التي بذلها زوجها في كامب ديفيد، وعن خيبة أمله حيال الفلسطينيين. المشروع الذي رفضه عرفات، وهذا ما تخفيه كلينتون في كتابها، أعطى الفلسطينيين أقل من 8% من بلادهم التاريخية، وتلاعب بالقدس. آنذاك قال عرفات لكلينتون إنه يعلم أنه كان هناك هيكل لليهود ولكنه في مكان آخر خارج القدس الشرقية. غضب كلينتون، كما يروي باراك، ونهر عرفات قائلاً "إنني أتحدث إليك كرجل مؤمن، وليس كرئيس لأميركا. علمني القس سلومون في طفولتي، قال إن الهيكل كان هناك".
كان عرفات آنذاك وحيداً، عُزل عن كل حلفائه ولم يسمح له باستشارة أحد. كلينتون، الوسيط المؤمن، كانت تساعده وزيرة خارجيته أولبرايت، السياسية التي تعرف نفسها بوصفها ناجية من الهولوكوست. على هذا النحو بدت تلك "الفرصة الضائعة"، التي لا يكف الإعلام الغربي عن التذكير بها.

على مر الأيام تركب إسرائيل ظهر الهولوكوست. سبق لبيغن أن شبّه عرفات، عام 1982، بهتلر. أما نتيناهو فذهب بعيداً في إلباس الفلسطينيين ثياب النازية، إذ قال في المؤتمر الصهيوني العالمي، 2015 في القدس، إن الحاج أمين الحسيني هو من زرع فكرة قتل اليهود في رأس هتلر. كل فعل غاضب يقدم عليه الفلسطينيون يذكّر إسرائيل بالهولوكوست، وكل أشكال الدعم للمسألة الفلسطينية هي معاداة للسامية. لا معنى لدعاوى الفلسطينيين، فهم "الشر المحض، الذي لا تشوبه شائبه" بتعبير بايدن أثناء حديثه عن حماس.

بُعيد السابع من أكتوبر أحال نتنياهو إلى الهولوكوست مرّات عديدة. فقد اختبأ أطفال المستوطنات من الموت كما فعلت "أنّا فرانك" في أمستردام، وقتلت نساء اليهود على طريقة دفن الأجداد أحياءً في "بابي-يار" في كييف على يد النازيين. تداعى نتنياهو بلا توقف، بكل السبل أجرى المقارنات بين الهولوكوست والسابع من أكتوبر. صار خطابه إلى سردية للدولة نفسها. الرئيس الإسرائيلي، هيرتزوغ، ألقى خطاباً أمام العالم وبيده نسخة من كتاب "كفاحي" لهتلر، قال إن جنوده عثروا عليها في غزة.

آل الهولوكوست إلى هزيمة النازية وانتصار اليهود. ينبغي لهذا الهولوكوست أن يبلغ المآل نفسه، ولو أن أوروبا فكرت بالأطفال والمدنيين لكسبت النازية المعركة. التبرير هذا، بهذه الكلمات، صار إلى لازمة خطابية يرددها السياسي الإسرائيلي أمام الشاشات الغربية. جلس الدبلوماسيون الإسرائيليون في استوديوهات النقاش الغربية ليشرحوا طبيعة الحل العسكري لمسألة غزة: لولا القنبلة الذرية لما حصلنا على دولة يابانية جيدة وحليفة كتلك التي نراها.

جاءت الهولوكوست من أصل يوناني يعني "حرق القربان". يفضل اليهود كلمة توراتية بديلة "الشوعة"، أي المأساة. تحيل الشوعة حصرياً إلى اليهود، ولا يمكن عولمتها كما يجري حالياً مع الهولوكوست. وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وبرزت سردية الهولوكوست لتغطي على كل أهوال الحرب. صار على كل الأصوات أن تصمت وأن يُستمع فقط لصوت الهولوكوست. وبتعبير أدورنو، الفيلسوف الألماني، فإن "كل قصيدة تكتب بعد الهولوكوست هي عمل بربري".

ساهمت كل الوسائط في ملء ذاكرة العالم بالهولوكوست: الصحافة، الأدب، الشهادات، الوثائق، التشكيل، السينما، الكوميكس، وسوى ذلك. بنيت سردية الهولوكوست استجابة إلى أصل ديني في العهد القديم، كتاب موسى الثالث، يقول "من كان شاهداً على أمر حدث، أو علِم بأنه قد حدث، ثم لم يشهد بما رآه أو علمه فقد ارتكب إثماً". تعمل آلة ضخمة على صيانة سردية الهولوكوست وترميمها منذ ثمانين عاماً. صارت موضوعاً مركزيّاً في قلب الحضارة الأوروبية، لأجله أعيد تعريف مسألتي الثقافة والحرية، وصارت عملية إعادة التفكير بحقيقة الهولوكوست جريمة ضد الإنسانية بحسب قانون غيسو-فابيو الفرنسي، 1990.

تصدرت السينما الأميركية لعولمة "جرح الهولوكوست"، ليصير ندبة في ضمير البشرية كلها، ومنحت جوائز نوبل لستة ناجين من المحرقة في فروع مختلفة. في أكتوبر الماضي وقف سبيلبيرغ، المخرج اليهودي- الأميركي، في مهرجان برلين السينمائي وقال "لا تسامح مع التاريخ حتى يعرف الناس كل الحقيقة". فلا بد من إبقاء الناس قادرين على "رؤية جراحنا"، كما يقول المؤرخ اليهودي- الكندي ديفيد روسكينس. العقود الماضية قدمت جيلاً جديداً من أدب الهولوكوست على أيدي كتاب يهود لم يشهدوا المأساة، غير أنهم وضعوا على عاتقهم تأبيدها من خلال "نزيف جيل إلى جيل"، بتعبير روسكينس.

حصّنت سردية الهولوكوست بمقلاع معاداة السامية، واعتمد الأوروبيون في العام 2016 تعريفاً لمعاداة السامية في زهاء 50 صفحة، يطال كل الأصول الثقافية والمعرفية، بما فيها التأمل الديني في الماضي. إذ تقول واحدة من مواد التعريف إن الإشارة إلى دور اليهود في مقتل المسيح فعل معاد للسامية.

تمضي معاداة السامية إلى جوار الهولوكوست، تخدم الأولى في الرخاء والثانية في الشدة. ولكثرة استخدامهما فقد تعرضتا للتخريب وفقدتا الكثير من المهابة والمعنى. فإسباغ صفة النازية على حماس لا يقدم عليه سوى شخص لا يريد أن يفهم طبيعة حماس ولا حقيقة النازية، كما تجادل تانيا غول في الحوليات اليهودية.

وفيما يبدو فإن كل هذا لم يحقق النجاح المتوقع منه. سوء استخدام الهولوكوست، والمسارعة إلى عقد المقارنات وبناء الانفعالات، أضر بحكاية الهولوكوست على نحو بليغ. فعلى ضوء الحرب على غزة، ديسمبر 2023، أجرت الإيكونوميست، بالتعاون مع مركز YouGov، استطلاعاً واسعاً للرأي في أميركا. طُرح سؤال حقيقة الهولوكوست على الفئة العمرية بين 18-29، وجاءت الإجابات على هذا النحو: 20 % قالوا إنه خرافة، 23 % رأوا أنه قصة مبالغ فيها، وقال 26 % إنهم لا يعرفون ما إذا كان حقيقة أم قصة طالتها المبالغات.

في خريف العام 2020 أجرى مؤتمر المطالبات، جمعية أميركية-يهودية، استطلاعاً حول الهولوكوست ولاحظ أن ثلثي المستطلعة آراؤهم لم يعرفوا بأن 6 ملايين يهودي قتلتهم النازية. مؤسسة ستاتيستا الألمانية قدمت صورة أكثر تعقيداً، إذ قال 70-80 % من مواطني ألمانيا، فرنسا، والسويد إن إنكار الهولوكوست مسألة معاشة في بلدانهم. وفي صيف 2022 قامت اليونيسكو، بالتعاون مع المؤتمر اليهودي العالمي، بقياس الموقف العام من الهولوكوست على السوشال ميديا. نصف المحتوى المنشور على تيليغرام، وهي منصة تستخدم على نحو واسع في شرق أوروبا، ينكر الهولوكوست. المحتوى الألماني كان لافتاً، حيث الإنكار يتجاوز 80% .

هذا ما يبدو عليه هيكل الهولوكوست بعد ثمانين عاماً من الاستثمار وسوء الاستخدام. يجلس الهولوكوست، كمسألة أخلاقية، في قلب الحضارة الغربية الراهنة. بيد أن تحوّله إلى سلاح وبروباغاندا، فضلاً عن حراسته بدالّة معاداة السامية المثيرة للجدل، جعله يخسر على مستوى المعنى والحقيقة، وسيواصل النزيف مستقبلاً إلى أن يصير ديناً لا تؤمن به سوى فئة محدودة من البشر.