خجل واضطراب واغتراب

 
كنت خجولاً جداً، وانطوائي إلى حد بعيد.. أعاني من الرِّهاب الاجتماعي على نحو فظيع ومرعب.. هكذا عرفت نفسي في مستهل وعيي بها.. صحيح أنني لم أخرج في ولادتي الأولى صموتاً، بل خرجت بصرخة ولادة أستطيع تخيلها، وهي تشق حجرة الولادة في بيتنا القديم، وصحيح أيضاً أنني كنت شقيّاً في طفولتي، وربما في بعض مراحل حياتي، إلا أن هذا لم ينل من خجلي وانطوائي البالغ الذي كنت أشعر به ثقيلاً جداً على حياتي..

لطالما كوابيس رهابي استولت على سكينتي، وأقلقتني الساعات الطوال في ليلي ونهاري، ولازمت حضوري ولاحقت فراري، وخجلي الذي كان أكثر ثقلاً وعبئاً وإعاقة لتطلعاتي.

كنت مُستغرقاً بإحساس كثيف أنني معاقٌ بخجلي، وأنني لا أصلح لشيء في هذه الحياة، وأن مستقبل حياتي سيكون مضروباً بتلك الإعاقة التي لا أستطيع تجاوزها أو التحرر منها، وقد صارت بعضاً من قدري الذي لابد منه.

أحسست مع كل إخفاق ينالني أن مردُّه عاهتي، ولطالما شعرتُ أن وجودي فائض عن الحاجة، وأن لا حكمة من وجود فائض عن لازمه، وأن الوجود في بعضه كان عابثاً ومستهتراً بالحاجة، وأنني صرت أعيش غيابي، وغربتي في هذه الحياة الصاخبة التي لا تُشبه انطوائي وخجلي ورهابي، ولا تحتاج لوجودي الفائض والممل.

وعندما قرأت لاحقا رواية “أحدب نوتردام” للروائي والأديب الفرنسي فيكتور هيجو، أحسست أنَّ تلك الحدبة التي يحملها بطل الرواية على ظهره، لطالما حملتها أنا على ظهري.. ذكّرتني تلك الحدبة بخجلي ورهابي اللَّذين أثقلا كاهلي، ومنعاني من فرص عديدة، وحرماني من أشياء كثيرة، ولطالما تم مصادرتي ومصادرة حقوقي، رغم وجودي الذي تبدّى لي أنه بات عبئاً على هذا الوجود.

صحيح أنني كنت أقدم على أفعال في بعض الأحيان تبدو جريئة ومتمرّدة وشقيّة؛ ولكن في معظم الأحيان كان يرافقني خجلي كظلّي، وأحياناً يجتاحني طغيانه الكاسح، ولا يترك لي متنفَّساً أو حيزاً أتزحزح إليه.. تتهشم عظامي في المضائق التي لا يتسلل إليها نور أو متسع.

 لطالما أهدر هذا الانطواء والخجل كثيراً من الفرص في حياتي التي أرهقتها مسارات الضياع، والتي وجدت نفسي أسيراً لها، أو عرضتني للمخاطر، والصعوبات الكثار، أو داهمتني بالمواقف المحرجة التي لا عد لها ولا حصر، وأحياناً ولّدت لدي شعوراً كثيفاً بالفشل والخيبة الكبيرة، والنقص الذي يبلغ بي مرحلة الندم أو العدم.

كان الإحساس بالرهاب والخجل الكبير يشعرني أن القدر قد أصابني بالاختلال في النفس والاعتلال في التكوين؛ الذي جاء ناقصاً وغير سوي.. أشعر بعاهة تجتاحني ولا تفارقني، ولا يفارقني الشعور بها.. عاهة تجعلني أعتب وانتفض في داخلي على القدر الذي انتقص منّي أو كان سبباً لهذا الاعتلال والخلل الضارب في عمق الروح.

كانوا يقولون إن الملائكة لهم دور في تخليق الجنين، وتسويته في بطن أمه، وكنت وأنا صغير أسأل أمي:

لماذا فلانة مخرومة الشفاه؟!

فتجيب: إن الملائكة نسوا اتمام هذا الخُرم .. ثم تزجرني وتمنعني من تنقيصها، حتى لا يأتي لي أبناء مخرومي الشفاه مثلها، عندما أشب وأتزوج ويكون لي في الحياة بنين!!

ثم تجوس في نفسي الأسئلة، وأشعر أنني مملوء بالنواقص والاختلال.. ألوم في قرارة نفسي الملائكة الذين أصاب اهمالهم كثيراً منِّي.. دماغي، وجهازي العصبي، وعيوني، وما خجلي و انطوائي وشعوري بالرُهاب والحرج، إلا إهمال وتقصير كبير منهم، يستحق الحزن والعتب، وأكثر من هذا إن تأتَّى.

عندما كبرتُ واكتسبت معرفة أكثر عن الوجود، وعن الواقع البشري والسياسي الذي نعيشه؛ اكتشفت كثيراً من أوجه الاختلال، والاعتلال الأكثر وبالاً وجوهرية على حياة الشعوب والمجتمعات.. اكتشفت أن العاهات الحقيقية هم الطغاة، والمستبدون والفاسدون، وأرباب الحروب وتجّارها، وأيقنت أكثر أن هؤلاء المسخ هم العبء على هذه الحياة وعلى الإنسانية وعلى هذا الوجود المُثقل بهم.

***

كان رهابي يخرس صوتي، ويئده، ويهيل عليه التراب.. يمزقه ويشتته حتى يتلاشى كالهلام.. يخنقه بقبضة من حديد قبل أن يصعد إلى فمي.. يبتلع لساني من جذرها المغروس في حنجرتي الملجومة بالخجل؛ والرهاب. طغيان يمارس سلطته بفجاجة على حياتي التي أثقلتني بمعاناتها.

كنتُ مازلتُ صغيراً أو حديث سنٍ، فيما رهابي وخجلي صارا أكبر منّي، بل أضعاف وزني وسنين عمري العجاف؛ مسحوقاً أنا بخجلي ورهابي بإصرار لا يكل ولا يمل، وبتكرار لا يعرف الوهن.. خيبة ومرارة تجتاحاني وأنا أقع في كل مرّة فريسة في شباكهما لا أقوى على المقاومة.

لطالما عشت مأسوراً بانطوائي، وبالحياء المطبق بكلتي يديه على فمي المكتوم بعازل الصوت الذي يمنعني أن أطلب حاجة، أو نجاة أو استغاثة.. يستطيع المرء أن يتصور مدى خجلي بصورة من يؤثر هلاكه على النطق بكلمة لا يزيد طولها عن الحرفين “قف”.

كيف لشخص أن يخجل من صوته ورفقته ويرتكب مغامرة تشبه الحمق الكبير؟! يؤثر احتمالية الخطر على أن يسمع الناس صوته؟! كيف لأحد بسبب حيائه وخجله وما يتملكه من رهاب أن يقفز من السيارة التي تقله، وهي مسرعة كالعاصفة دون أن يطلب من صاحبها الوقوف أو النزول.. إنه رهاب يشبه الانتحار.

***

لطالما خجلت من صوتي وأنا صغير.. حتى عندما وصلت إلينا مسجلات تسجيل الصوت لم يكن يطربني صوتي، بل ربما عتبتُ يوما على رب هذا الصوت.. ربما أوغلت في التمرد في لحظات انفعال وانفلات.. فلت من يدي عقاله وزمامه حتى بلغ أطراف المدى.

أقاوم الإكراه بكل وجوهه، وسلطانه وإرغاماته، ولكن ينحرف أحياناً تمردي حتى يبلغ ما هو قصي وبعيد.. أذكر يوماً صفعني فيه أبي بالحذاء مرتين، وثلاثاً لمجرد أنني تأخرت في إحضار ماء وضوء صلاة المغرب لأحد أقاربنا رحمة الله عليه، وبانفعال وحماقة بُلت في الوعاء قبل أن أصب فوقه الماء، وأعطيته الرجل ليتوضأ، فيما عيوني كانت غارقة في دموعها وهي تكابر.

هدأت نفسي وانفعالي، وربما خالطت دموعي ابتسامة ما حالما شاهدته يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه ومحيّاه.. لقد أصاب حمقي من كان بريئاً من صفعي بالحذاء، حتى وإن استشعرت حينها أنه بعض سبب يستحق العقاب.

المفارقة كبيرة بين من يتجرّأ على فعل هذا، وفي مقام آخر يخجل من أن يسمع الناس صوته.. مفارقات عجيبة أحياناً تجمع ما لا يجتمع.. ربما حالي في بعض منه يشبه في أيامنا هذه من يدعي أنه قاوم سبعة عشر قدراً فيما يرتعب ويرتعد من كلمة، أو منشور في وسائل التواصل الاجتماعي.

 لن يحدث هذا إلا لوجود عور وخلل في دماغ وكينونة المدّعي، وأساس من استبداد المخاوف الكبيرة، والحيلولة دون وجود انكشاف عن أخطاء، وخطايا جسام من فساد وانتهاك، وافتقاد ثقة بألف ضعف مما كنتُ أعاني في صغري وحداثة سني.. هكذا بدت لي الحياة تعج بالنظائر والعجائب، وحافلة بالتناقضات والمفارقات والمخاوف.

***

كان عمري يومها أقل من خمس عشرة سنة على الأرجح.. توقف أبو شنب بسيارته “اللاندروفر” عندما أشرت له بالوقوف والسماح لي بالصعود إلى سيارته، فيما كنا نسميه “تعبيره”.. كان أبو شنب الشعبي رجلاً طيباً جداً، ومعتاداً على تعبير الطلاب الذين لا يملكون مالاً، دون أن يأخذ منهم أجرة نقل، ولا سيما إذا وجدك راجلاً في الطريق وترجوه خجلاً بإشارة من يدك أن يوصّلك.

كان السائق عائداً إلى منطقة “ضوكة”، فيما كنت أنا قاصداً “شعب الأعلى”، مجفلاً إلى قريتي في القبيطة.. كانت السيارة مزدحمة بالركاب.. وقف لي السائق بسيارته وتسلقت على حدائدها، و ظفرت بمكان صغير في مؤخرتها.. وبعد قليل تفاجأت أنّ السيارة متجهة إلى غير وجهتي.

كنت أظن وجود شخص أو أكثر ممن تقلهم السيارة سيطلب من السائق التوقف للنزول منها، لعل وجهتهم تماثل وجهتي، غير أن الخيبة داهمتني، وأنا أكتشف أن الجميع على غير الاتجاه الذي أقصده.

 الجميع متجه إلى “ضوكة”.. وبسبب خجلي وما يتملكني من رهاب، لم أتجاسر على أن أصرخ أو حتى أطلب الوقوف للنزول من السيارة التي تقلني.. كانت السيارة تسير بسرعة في وجهتها، وتبتلع المسافات بنهم وشراهة، فيما أنا آثرت القفز منها على طلب إيقافها.. كاد أن يقول الناس عنّي “ومن الخجل ما قتل”.

قفزت من السيارة.. ارتطم جسدي على الأرض.. خلت جسدي في أول وهلة قد تطاير كالزجاج.. أرتطم ذقني على الأرض بقوة.. اصطكت أسناني واحتدمت ببعضها.. ارتطم الفكاّن فوق بعض حتى فقدت التميز بين علوه وسافله.. أحسست أن رأسي تفجر وتطاير كشظايا قنبلة.

 شاهدت شرراً قادحاً من عيوني يخر في كل اتجاه.. شعرت أن الارتطام قد صيرني حطاماً متطايراً لا يُجمع ولا يجتمع؛ فيما كان ركاب السيارة يصرخون وقد شاهدوا بغتة وقوع أحد ركابها منها دون أن يعلموا أنني فعلتها بمحض إرادة سببها الرهاب والخجل.. أوقف السائق السيارة على إثر صراخ الركاب ليرى ما الذي حدث..؟

تعددت الإصابات في جسمي.. دم يهر من سحجات وخدوش متفرقة في جسدي.. تهتُّك بعض من قميصي، وسروالي صار مغبراً متسخاً.. الغبار والدخان كانا أكثر وضوحاً، وكأنني خرجتُ من مدخنة السيارة.. دم يهر من الخدوش، ويسيل بعضه من أسفل الذقن.

نزل السائق من كبينة السيارة ليرى ما حدث، فيما أنا غالبت وقع الارتطام وشرر الألم، ودفعني الحرج والخجل الأشد أن استجمع قواي، ونهضت بمكابرة لا يعرفها من هو حديث السن، لأنقل لمن كان في السيارة التي وقفت أنني معافى وعلى ما يرام، فيما السائق بدا في سعادة الناجي، وكأنه هو الناجي لا أنا.. كانت مكابرتي ونهوضي السريع بدافع الخجل قوية وغالبة، ودون أن أتفوه ببنت شفه.. بدوت في شكل من يتحمل مسؤولية ما حدث كاملاً دون نقصان.

وبعد مشقة ومغالبة للألم وصلت إلى بيتنا في شرار، وأول ما شاهدتُ وجهي على المرآة كان ذقني الجريح.. رأيت أسفل الذقن جانباً زائداً وجانباً ناقصاً في غير اتساق.. اختل النسق والاستواء.. مازال هذا الاختلال والعور ملحوظاً إلى اليوم، ويستطيع أن يلمحه من يتفحصه بالنظر.

اليوم كبرنا وصرنا والوطن نصرخ بكل صوت.. السيارة التي تقلنا بلا كابح، أو فرامل.. سيارة يعترك على مقودها من لا يجيد فناً أو قيادة.. مجانين حرب، لا يجيدون حتى حساب الربح من الخسارة.. السيارة تمرق بأقصى سرعة وجنون.. استحال علينا حتى القفز منها.. باتت تهرول نحو المنحدر.. بات مصيرنا والوطن مجهولاً ومرعباً.

وأختتم هنا بالتذكير أن للصمت - ربما أيضاً - معنى وصوتاً أجل وأكبر من ذلك الضجيج الذي نسمعه.. وإن استبدت بنا مخاوفنا حينا، وصار صمتنا أكبر من الضجيج، فربما أيضاً لا يخلو من حكمة وعبرة وبصيرة، وما نحتاجه هو عالم ومحيط يفهمه، وقد قالها شمس التبريزي يوماً إن للصمت أيضاً صوتاً ولكن بحاجة إلى روح تفهمه.

***
- من مذكراتي