طاقة العناد والتمرد ..!

 إنّ العناد الّذي نكتسبه، أو الذي نتطبًّعُ عليه، في أحدى وجوهه ربما يعود في منشئه إلى طفولة مقهورة وقاسية، ويمكن أن يتحوّل هذا العناد إذا ما امتلك صاحبه السلطة إلى قوَّةٍ تدميريَّةٍ يمكنها أن تُهلك المُعاند نفسَه، ومن حوله، بل وربّما تمتدُّ أضراره وآثاره إلى المجتمع الذي يعيش فيه.

لا يتوقف ذلك القهر وتلك القسوة على البيت، بل وتمتد إلى المدرسة، وتتمدد إلى المجتمع الذي يعيش الموت أكثر مما يعيش الحياة.

الاعتماد على سياسة القمع، والإيغال في العناد لغير ما هو إنساني لا يأتي إلّا بكلِّ ما هو تدميري مكرر، وفي أفضل الأحوال يأتي بما هو بائتٌ ومشوّهٌ وغيرُ سوي.

العناد في استخدام السلطة يدفعك إلى الانحراف إلى ما هو في غير موجب.. يدمِّر الآخر ويدمِّر الذَّات.. يدمِّرُ المجتمع ويدمِّر صاحبَه.. يجرفك إلى الاستبداد والطغيان بالسلطة التي تعترشها.

***

في صغري كنت مُغرماً بأكل التُّراب. يا إلهي كم كان التراب شهيّاً ولذيذَ المَذاق!! والأكثر لذاذةً أنْ أفعلَ هذا في السِّر والخفية، بعيداً عن أعين أمّي.

كانت أمّي ما إن تكتشف الأمر، فتسارع إلى ضربي حتى قبل أن تُخرِجَ التراب من فمي، وأحيانا يتأخر العقاب إلى لحظة انكشافي بعد حين لا يطول. ومع ذلك وما إن أجد الفرصة ثانية حتى أكرر الفعل المشبوب بالعناد.. ويتكرر الضرب، ويتكرر العناد ولا أتوب.

ومثل هذا حدث أيضاً بل ومراراً مع أبي الذي كان يميل إلى القسوة في تفاصيل سآتي على ذكرها لاحقاً في مواضع شتى ومواقف متعددة.. وبعد البيت أخذت المدرسة دورها، ثم يمارس المجتمع والواقع بقية الدور حتى الرحيل.

***

إن أخطأتَ في البيت تُضرب، وإن أخطأتَ في المدرسةِ تُضرب، بل إنَّ الضربَ هو أحد العقوبات المهمة حتى في تشريعاتنا، وأكثرُ من هذا أنّ السِّياسةَ العقابيَّةَ في تشريعاتِنا المثقلةِ بالوَجعِ والرُّكام، لا تقوم على أساس إصلاح الجاني، وإعادة تأهيله؛ ليندمج في المجتمع، رغم ما يعانيه المجتمع نفسه من الانحراف، بل تقوم في الغالب على أساس الانتقام بالعقوبة من الجاني.

من الأجدى والأنفع أن نحوِّل عنادَنا إلى تحدٍ يُنتجُ طاقةً خلّاقةً كبيرة ومبدعة، تخدم حقوق الناس وتُثري العلم والمعرفة، وبما يفيد الناس والعالم خيراً وفضيلةً ورخاء.

كثيرٌ من العلماء المخترعين والمكتشفين، وعظماء التاريخ عملوا على تطويع عنادهم وتوجيهه على نحوٍ خلّاقٍ في خدمة الناس والبشريَّة؛ فاكتسبوا العظمة والخلود، فيما هناك كثيرٌ من مجرمي التاريخ وسفاحيه - بسبب عنادهم وتصلب رأيهم - أهلكوا الضرع والنسل، وبحروبهم أهلكوا أنفسَهم وشعوبَهم.

أما أنا فأحاول أن أحوّل الابتلاء بالعناد الذي يسجِّل لديَّ بعضَ حضوره، إلى طاقة خلَّاقة وموقف مساندٍ للمظلومين، والدِّفاعِ عن حقوقهم المنتهكة، والتّصدِّي للسُّلطةِ الَّتي تعمَدُ إلى قهرهم وإذلالهم، وتدجينهم، وإخضاعهم لها ولجبروتها، أو هكذا أزعم أو أظن.

ومن جانب آخر أعتقد إلى حد بعيد صحة تلك المقولة "الظلم لا يولد الثورات، إنما يولد الثورات الإحساسُ بالظلم" وهو ما أشعر به كثيراً، أينما حلّيت وولّيت.. أحس في وعيي بحضور الإحساس الكثيف بالظلم والقهر والابتزاز..؛ لذلك ربما أجد نفسي غالباً في مواجهة صنوف الظلم، معانداً أو ثائراً، أو متمرداً حتى على نفسي إن لزم الأمر. باحثاً على الأقل عن عالم أقل سوءاً من هذا الذي أعيشه وأراه.

***
- من مذكراتي