في الهزيمة الخلّاقة

نتداول، نحن العرب، بإعجاب تجارب النهوض الياباني. لكنني أجادل هنا أننا بحاجة الى دراسة تجارب الهزائم اليابانية.

على كثرة هزائمنا وخيباتنا تنقصنا ثقافة الخروج من الهزيمة.

وثقافة الهزيمة ضرورة لأي أمة تسعى للخروج من خراب الهزائم الى سماء البناء.

ابتكر اليابانيون مصطلح "الهزيمة الخلافة"!

ويا له من مصطلح ينم عن قدرة هائلة على فهم الواقع وإرادة صادقة لتغييره دون أوهام أو شعارات أو عنتريات.

انهزمت اليابان أمام الغرب مرتين: المرة الأولى عام 1854 عندما اقتحم الجنرال الاميركي ماثيو بيري اليابان بسفنه واجبرها على توقيع انفاقية تبادل تجاري ظالمة وضعت المنافع كلها في يد أميركا، ولم تقدم لليابان شيئا بالمقابل.

أحدثت الهزيمة خضة هائلة في المجتمع الياباني. 

سقط المتحكمون القدماء في السوق. 

امهارت أسس الاقتصاد الياباني التقليدية. 

وتجرع اليابان مرارة الهزيمة والفقر معا.

كان أمام اليابان ثلاثة احتمالات: المقاومة العسكرية للنفوذ والتحكم الاميركي، وهو خيار انتحاري في ظل فارق القوة التقنية. 

خيار الاستسلام الكامل. 

أو الخيار الثالث: التعامل الخلّاق والواقعي مع الهزيمة.

قررت اليابان السير مع الخيار الثالث. تساءلت عن سبب الفارق الحضاري والعسكري الهائل بينها وبين المحتل، وكان الجواب هو "العلم والتقنية".

 بعثت بشبابها لدراسة العلوم في الغرب. 

تخلت عن سياسة العزلة الاي انتهجتها قرنين من الزمان. فتحت ابوابها لكل ايجابيات العصر.

أنشأ الحاكم المستنير الميجي برنامجاً للتصنيع والتحديث السريع. 

فككت النظام الاقطاعي وخلقت مجتمعا أقدر على التكيف مع الواقع الجديد.

وبعد أن امتلكت القوة اعادت التفاوض مع المحتل على شروط الاتفاقيات التجارية حتى نالت حريتها.

من رماد الهزيمة قادت اليابان نهضتها الأولى.

لم تنكر الهزيمة وتحولها أبواقها الاعلامية الى نصر. 

ولم تنجرف نحو خيار الانتحار تحت وهم الكرامة والمقاومة المسلحة. 

قررت الرد بما يتناسب مع الوقائع والتوازنات.

هزمت اليابان مرة أخرى على يد أميركا عام 1945.

استسلمت اليابان بعد القنبلة النووية رعم ان جيشها كان قادرا على الاستمرار في الحرب، لكنها فضلت الاعتراف بالهزيمة على خيار الانتحار.

واعترفت بخطئها وبجموح نزعتها العسكرية التي ادت الى الهزيمة واعادت النظر في كل أخطاء الماضي ورفضته.

وكما حدث في الهزيمة الاولى انطلقت في الهزيمة الخلاقة الجديدة لتعيد النظر في نموذج التصنيع الموجه من النخبة العسكرية الى راسمالية مبدعة مرتبطة بالابتكار والتصدير. 

ومن نزعة العسكرة والتوسع الى بناء خلاق على مبدا الاخلاص في العمل والتميز في الانتاج.

ومن الاستبدادية العسكرية الى الديموقراطية السياسية.

امتلكت اليابان الجرأة على الاعتراف بالهزيمة، والإقرار بخطئها، والتمرد الشجاع على كل أخطاء الماضي وعقائده الكارثية.

نحن العرب، لا تنقصنا الهزائم. تنقصنا فقط ثقافة الاعتراف بالهزيمة وعدم تحويلها الى نصر هزلي. 

وتنقصنا ثقافة التعامل الخلاق مع الهزيمة بدل الانجراف نحو الخيار الانتحارية. 

وتنقصنا القدرة على رفض خطايانا وأخطائنا بدلا من تحويلها الى فيم وعقلئد ومباديء قاتلة.

الهزيمة اليابانية ملهمة قدر إلهام النهوض الياباني. لكن لننسي النهوض الياباني ولنغمس ذواتنا الغارقة في أفيون النصر بشيء من عقلانية ادراك الهزيمة وواقعية الخروج منها.