Logo

اليمن.. بلد القصيدة المؤجلة

 اليمن ليست خريطة على الهامش، ولا رقعة ترابية تتنازعها الجهات، إنها ذاكرة تضج بالمطر والحروب، بلادٌ تطل من النافذة كأنها حلمٌ قديم نسي أن يستيقظ. 

حين تذكر اليمن، لا تستدعي جغرافيا فحسب، بل تستدعي زمنًا بأكمله، زمناً يمشي على قدمين في أزقة صنعاء، ويتكور في حضن الجبال في صعدة، ويغني على أرصفة عدن، ويمضغ الحنين مع كل مضغة قات.

اليمن ليست مجرد بلد، إنها استعارة ممتدة. تشبه امرأةً فقدت أحباءها وظلت تغني في المساء، تشبه جدارًا في بيت قديم ما زال يحتفظ بصورة الأب والجد وطفولة لم تكتمل. 

فيها تجد المفارقة مغموسة في كل شيء: في الرغيف اليابس، في البندقية التي صدأت قبل أن تطلق رصاصتها الأولى، في الحكايات التي يرويها الناس أكثر مما يعيشونها.

اليمن بلدٌ كلما أردت الاقتراب منه، ابتعد، وكلما حاولت الهروب، تبعك. فيه من القسوة ما يجعل الطيبين يشيخون باكرًا، ومن الجمال ما يكفي لتبرير كل الجنون. 

هو المكان الذي إن سقطت فيه ورقة، تساقطت معها أوراق التاريخ. كل قرية فيه تعرف أكثر مما تقوله، وكل طفل يحمل على ظهره قرنًا من الأسى.

ومن بين كل هذه العتمة، تخرج من اليمن أغنية. لا أحد يعرف كيف يحدث ذلك، لكنه يحدث. صوت يأتي من بعيد، من بين الجبال أو البحار أو الأزقة، يقول لك: "ما زلت هنا، رغم كل شيء". 

يغني اليمنيون حتى في عز الحرب، يرقصون رقصة البرع بينما العالم يحصي جثثهم، يزرعون البن في الأرض المكسورة، يربّون الأمل في الظل.

اليمن بلد القصيدة المؤجلة. كل بيت فيه يشبه سطرًا شعريًا ناقصًا، يحتاج إلى قارئ يعرف كيف يكمله. ليست المأساة فيه جديدة، بل قديمة جدًا، لكنها ترتدي ثوبًا جديدًا كل عام.

 وكأن قدره أن يعيد إنتاج ألمه بأناقة نادرة، لا تشبه إلا نبل الخسارة حين تُروى بهدوء.

أيها العابر من هنا، لا تنظر إلى اليمن بعين الشفقة، بل بعين العارف. ففي كل بيت مُهدّم، قصة عن الحب. 

في كل خندق، قصيدة. وفي كل امرأة تمضي بثوبها الأسود، ذاكرة شعب بأكمله يمشي منتصبًا رغم الوجع.

اليمن ليس بحاجة إلى ضوء جديد، بل إلى من يتذكّر أن فيه شمسًا لا تغيب، فقط غطّاها الغبار.