Logo

العالم العربي وزمن انحطاطه الجديد!

 ما الذي يمكن قوله عن أمة أرادت من تلقاء نفسها أن تدخل في عصر الانحطاط الجديد، وهي التي لم تستطع بعد الخروج من عصر الانحطاط القديم.

أمة ضلّت طريقها، وتخلّى قادتها عن هويتها، وتاريخها، ووجودها، وثوابتها، وأصالتها، ومستقبلها. أمة لم تعد تميّز بين الذئب والحمل، بين المفترس والأليف، بين القاتل والمقتول، بين الغاصب والمغصوب، وبين العدو والصديق. أمة رماها حكامها في أحضان قتلتها، ومستبدّيها، ومستعبديها، ومستغلّيها.

أمة يقف قادتها إلى جانب قتلة أبنائها دون أن يرفّ لهم جفن، يغازلون بلا حياء مجرمي العصر، وهم يدمّرون أوطانها، ويبيدون أبناءها. أمة تُفترس، وشعوبها تستغيث بزعمائها، وهي تدري أنّ «حماة» الديار والأوطان انقرضوا، وحلّ مكانهم المتسكّعون على أبواب واشنطن وتل أبيب، فيما أضحت الأمة على الساحة مطوّقة، محاصرة، غاب عنها الفرسان وبقيَت وحدها الفرسُ !

أمة تقف على مشهد جديد يتكرّر، فاصل من الزمان، بين ماض غابر، وحاضر مظلم يتجذر، بين جحافل مغول تنشقوا ريح القتر، وقراصنة مارقون أتوا من وراء البحار، مجرمون نهابون شأنهم كالتتار، عبثوا بالديار، واستباحوها، وأوغاد الأمة المغفّلين، يهلّلون للقاتل، يطبّلون، وهم له العون والحرس.

عالم عربيّ يُستباح أمام ناظريهم، من غزة الى لبنان، وسورية، والسودان، وليبيا، واليمن، والصومال، والآتي أعظم.

غزة تُمزّق، تُقطّع، وشعبها يُذبح، تُنادي «الرجال» القابعين داخل قصورهم، وهم فرحون، مهللون، يتفرّجون على صلبها، ويسمعون أنينها، تنظر إليهم بطرفة عين، وهي تلفظ الأنفاس، تمقتهم، تبصق في وجوههم المحنّطة، دون أن تجد فيهم ذرّة من الضمير والشعور الإنساني.

ليتك يا غزة تعيشين عصر الجاهليّة، لكان أشرف لك من الوضع الذي أنت فيه. عيب الناس في الجاهليّة أنهم لم يدركوا الإله الواحد الخالق قبل الدعوة، 

ومع ذلك كانت لهم في المقابل صفات الرجولة، والمروءة، والعزة، والكرامة، والاستماتة في صون العرض والشرف، والدفاع بكلّ قوة عن قبائلهم، وحفظ ديارهم، ونجدة مستغيثيهم.

أين الأمة و»رجالها» اليوم، من صفات أبناء الجاهليّة؟!

 هل صان القيّمون على أوطانها شرف أبنائها، وكرامتهم؟! 

هل حموا الديار من المغتصبين المعتدين المحتلّين؟! ما الذي فعلوه لك يا غزة لمنع ما قام به مجرمو العصر بحقك، قتلة الأطفال ومجوّعوهم؟!

 هل كان الجاهليّ ليرضى أن يسكت عن قاتل أخيه، أو أبناء قبيلته؟!

«أعراب» الحاضر، تخلّوا عن أبناء جلدتهم، لكن لماذا يغازلون القتلة، ويستضيفونهم في عقر دارهم حتى يرى العالم كله، مدى الانحطاط الإنسانيّ والأخلاقيّ الذي وصل إليه جاهليّو الأمة اليوم؟! هل حفظ هؤلاء ديار أوطانهم وشعوبهم مثل ما حفظ «الجاهليون» قبائلهم من قبل؟! 

الجاهلي الحقيقي في الوقت الحاضر، هو الذي فرّط بالأوطان والشعوب والقيم والمبادئ، وشارك في زعزعة العالم العربي، وأمنه القومي، ووحدة شعبه، وتخلّى عن الدفاع عن أرضه، ودياره؟! 

إنّهم الجاهليّون الجدد الذين فرّطوا بمستقبل الأمة، وتاريخها، وكرامتها، وحياة أبنائها.

لا تعيّروا بعد اليوم الجاهليّة القديمة، فلا عتب عليها، بل عيّروا في هذا الزمن، جاهليّي الأمة الجدد الذين لم يحفظوا العهد ولا الوعد، ولا العرض، ولا الشرف ولا الكرامة، ولا الديار، بعد أن بانوا على حقيقتهم المخزية، وسيرتهم، ومواقفهم المقززة التي سترويها عنهم أجيال وأجيال.

غزة، يا شهيدة الأمة، ألم يسمع حتى الآن «أولياء» الأمر في عالمك العربيّ العجيب، آهات الأمهات، وأنين الجياع وبكاء اليتامى، وصرخات النساء والشيوخ؟! 

ألم يسمع عديمو الضمير والإنسانيّة، الأطفال يصرخون جوعاً وخوفاً وألماً؟! لم تعد تعنيهم فلسطين، ولا العروبة، ولا الشرف، ولا النخوة ولا الأمة كلها، بعد أن فقدوا كلّ معاني الكرامة والعزة، وسخّروا أنفسهم لقوى الهيمنة والعدوان!

هذا هو الانحطاط الذي يغوص فيه العالم العربي، والذي سيستغرق وقتاً طويلاً، قبل أن تستفيق الشعوب العربية من غيبوبتها، وتستعيد وعيها من جديد. انحطاط لا مثيل له، صنعه الذين ابتُليت بهم الشعوب العربية، وآثروا الخنوع، والانبطاح والسجود لواشنطن، التي يرون فيها ضمان سلطتهم، والملاذ الآمن لهم.

إلى متى سيظلّ الأميركي يُهيمن، يقرّر، يأمر، والإسرائيلي يجتاح، يستبيح، يبطش ويقتل؟!

لم تعُد فلسطين عند هؤلاء، قضية العرب المركزية وإنْ زايدوا، وكذبوا، ونافقوا، وخدعوا شعوبهم بها على مدى عقود طويلة. لقد بان كلّ شيء، ولم يعد خافياً على القاصي والداني،

 فالأقنعة سقطت عن الوجوه السوداء، التي آثرت أن تهرول باتجاه العدو في تل أبيب، تظرفه، تشجّعه، ترتمي في أحضانه، تعطيه صكاً على بياض، ليفعل ما يشاء، وكيفما يشاء، بدول المنطقة وشعوبها، بعد أن تخلّت عن مبادئ الأمة وحقوقها كلها، حيث لم يعد يعنيها ووجودها وحرية شعوبها وسيادتها!

إنه عصر الانحطاط الجديد الذي دخل ديار العرب من كلّ الجهات… حروب، وثورات، ونزاعات، واقتتالات دموية داخلية، وفتن، وانقسامات، ونعرات دينية وطائفية، وتنظيمات تكفيرية همجية لا حدود لها، ستترك آثارها السلبية، وتداعياتها الخطيرة لعقود طويلة، بعد أن زجّت دول عربية نفسها في الصراعات، 

ووقفت مع جهة ضدّ أخرى، مما أسفر عن مزيد من الفوضى والاقتتال، وسفك الدماء، وزعزعة الاستقرار !

إنّه عصر انحطاط، يتمّ هذه المرة، ويا للعار، نتيجة القرارات العقيمة، والمواقف المخزية، والسياسات المدمّرة التي لجأ إليها قادة وحكام عرب لهم براعة كافية في الهروب من قضاياهم المصيرية، وخبرة وافية في وأد الأوطان وخنق شعوبها!

كم هو مؤلم الصمت القاتل لقادة تجاه ما يحدث في العالم العربيّ، وكم هو محزن ومؤلم في الصميم، أن نجد الجاهليّة أكثر أصالة، وشرفاً، وإنسانيّة من العديد من «قادة» وسياسيين في العالمين العربي والإسلامي!

إنها صدمة حضارية وأخلاقية نعيشها، حيث تحتاج الشعوب المقهورة في العالمين العربي والإسلامي إلى انتفاضة، ووعي حقيقيّ، وقرارات حاسمة شجاعة، يعيد لها سيادتها، وكرامتها، وحقوقها المشروعة، ومكانتها في العالم.

هل سمع المتخاذلون، المتواطئون، المحنّطون، في العالمين العربي والإسلامي، أصوات العديد من السياسيين، والمسؤولين، والنواب والحقوقيين، والناشطين الأجانب، وهتافات الحناجر الشريفة في الغرب، الذين تأبى إنسانيتهم، ويأبى ضميرهم أن يسكتوا عما يشاهدونه من أبشع جرائم العصر على الإطلاق، وإبادة جماعيّة بحق سكان غزة التي يرتكبها جيش الاحتلال؟!

غزة تحتضر أمام عديمي الشهامة والإنسانية، فيما ضمير غربي يصحو وينتفض، وضمير عربي يغفو ويحتضر.

شتان بين ضمير الأحرار وذلّ العبيد، في عالم عربي يدوّن تاريخه في أحضان واشنطن وتل أبيب…!

*وزير الخارجيّة والمغتربين اللبناني الأسبق