Logo

من نشوان الحميري إلى مجاهد بن حيدر: جذور يمانية راسخة في رفض الإمامة السلالية والدفاع عن الوطن

في تربة اليمن الصلبة، تنبت أشجار باسقة، جذورها ضاربة في عمق التاريخ، وأغصانها تتشابك مع رياح التغيير وتقلبات الزمن. 

ومن بين هذه الأشجار، تبرز قامات شامخة، تحمل على عاتقها هموم الوطن وتقلباته، وتسير في دروب وعرة بحثًا عن الحق والعدل. 

إن الشيخ مجاهد بن حيدر، شيخ مشايخ حرف سفيان، هو إحدى هذه القامات الاستثنائية، التي رسمت حياتها لوحة فريدة من الصراع والتضحية والتحول الفكري العميق.

لم يكن الشيخ مجاهد مجرد معارض للسلطة، بل كان صاحب رأي وفكر، رجل مبدأ يرى أبعد من مصالحه الآنية، ويؤمن بقيم سامية يسعى لتحقيقها ولو كلفه ذلك أغلى الأثمان. 

لقد دفع هو وأسرته ثمنًا باهظًا على مر السنين، بدءًا بدماء الأب والإخوة وأبناء الأخوة والعم، في صراع مرير مع تعاقب السلطات التي رأى فيها جورًا واستبدادًا.

 لم يكن سعيه للسلطة أو المكاسب الشخصية، بل كان صرخة مدوية في وجه الظلم، نابعة من قناعة راسخة بضرورة إقامة العدل والحق.

وفي منعطف تاريخي دقيق، انخدع الشيخ مجاهد بمظلومية طرف آخر، أولئك الذين رفعوا شعارات المظلومية التاريخية، واستقطبوا بتلك الشعارات قلوبًا نبيلة تواقة للإنصاف. 

وقف الشيخ مجاهد بكل ثقله مع هذه الحركة، ببذل المال والسلاح والأرض والأهل والعشيرة، ليس طمعًا في مغنم أو رغبة في تسلط، بل انطلاقًا من إيمانه الظاهري بقضية عادلة. 

لقد كان مثالًا نادرًا للرجل الذي يتبع قناعته حتى النهاية، ويضحي بكل ما يملك في سبيل ما يؤمن به.

لكن سرعان ما انكشف الغطاء، وتجلت الحقيقة المرة. 

أدرك الشيخ مجاهد أن المشروع الذي ناصره لم يكن سوى قناع يخفي وجهًا آخر للتسلط والكهنوت، 

وأن المظلومية التي روج لها ما هي إلا وسيلة لإحياء مفاهيم عتيقة ترى في الناس عبيدًا وفي فئة معينة سادة بأمر التاريخ والنسب.

 هنا، تجلت أصالة معدن الشيخ مجاهد، وشجاعته النادرة في مراجعة الذات والتراجع عن قناعة تبين زيفها.

لقد كان انسلاخه من هذا الوهم بمثابة ولادة جديدة لرجل عرف الحق فتبعه، ورمى خلف ظهره كل التضحيات التي قدمها في سبيل باطل اتضح له زيفه.

 لم يلتفت إلى خسائره المادية والمعنوية، بل آثر الانحياز إلى يمنيته وهويته الوطنية الجامعة، رافضًا أي مشروع طائفي يسعى إلى تمزيق النسيج الاجتماعي وتكريس الفرقة.

وها هو اليوم، يقف الشيخ مجاهد بن حيدر في خندق آخر، يقاتل ببسالة ضد نفس المشروع الكهنوتي الذي انخدع به يومًا ما. 

لقد تحول إلى جبهة وحده في مقارعة هذا التيار الذي يهدد هوية اليمن وسلامة شعبه. لم تثنه الخسائر الفادحة، ولم يضعف عزيمته فقدان البيت والأولاد. 

كلماته الأخيرة تلخص جوهر هذا الرجل العظيم: "الوطن أغلى من أن يختزل في أخشاب وحديد وديكورات. الوطن أغلى من البيت والولد. وإن الوطن لو صار سليمًا سيعود كل شيء وسيسكن فيه أهله بسلام. وهذا خير من النوم في قصور بلا كرامة أو حرية."

وفي هذا السياق، يتبدى لنا وجه من أوجه التشابه العميق بين الشيخ مجاهد بن حيدر وبين القاضي نشوان بن سعيد الحميري، ذلك الزعيم اليمني الحميري الذي عاش قبل قرون. 

فكما قارع نشوان الحميري فكرة حصر الإمامة والولاية في البطنين أو في قريش، وواجه في سبيل ذلك الأئمة الزيدية الذين تبنوا هذا المذهب، نجد الشيخ مجاهد اليوم يقف موقفًا مماثلًا في رفضه لمشروع سلالي يرى أحقية فئة معينة في الحكم والتسلط على بقية اليمنيين. 

وكما رفض نشوان أن يكون جزءًا من منظومة لا يؤمن بعدالتها، فإن الشيخ مجاهد أيضًا أبى كل المغريات والمناصب الرفيعة التي عُرضت عليه، مفضلاً الوقوف مع قناعته الوطنية ورفض أي مشروع طائفي يرى فيه تقويضًا لكرامة اليمنيين وحريتهم.

 كلاهما، في عصره، كان يمثل صوتًا للضمير الوطني الرافض للانغلاق والتمييز.

إنها كلمات تنطق بحكمة رجل خبر الحياة وتقلباتها، وعشق وطنه حتى الثمالة. 

إنها رؤية عميقة ترى أن قيمة الإنسان الحقيقية تكمن في انتمائه الحر والكريم لوطن آمن ومستقر، لا في مجرد الممتلكات أو الرفاهية الزائلة في ظل حكم مستبد.

الشيخ مجاهد بن حيدر ليس مجرد شيخ قبيلة أو معارض سياسي، بل هو رمز للأصالة اليمنية، وللضمير الحي الذي لا يلين أمام الباطل. 

قصته هي قصة البحث الدائم عن الحق، والشجاعة في الاعتراف بالخطأ وتصحيح المسار. إنها قصة رجل آمن بوطنه وشعبه، وضحى بكل شيء من أجل أن يراه حرًا كريمًا.

فلنعرف معدن هذا الرجل الأصيل، ولنقدر تضحياته الجسام، ولنتعلم من رحلته المليئة بالدروس والعبر.

 إن أمثال الشيخ مجاهد هم الذين يصنعون تاريخ الأوطان، وهم الذين يستحقون أن يُخلد ذكرهم في ذاكرة الأجيال. إنه قامة يمنية تستحق كل التقدير والإجلال.