اليمن: معشوقة الروح ومهبط الوجدان
من رحم الأزل، حين كانت الأرواح تتهادى في فضاءات الإبداع، تشكلت حقيقةٌ تُدعى اليمن.
ليست مجرد بقعة على خريطة، بل هي أسطورةٌ تتنفس، وقصيدةٌ تتلوها الأيام، وحكمةٌ تتردد في أصداء الدهور.
إنها سبأ التي تشدو بقوافي العشق، وتُهيم الوجدان بجمالها الآسر، رونقٌ يفوق الوصف، وسحرٌ يأخذ بالألباب.
هي نشوةٌ سكرى تنتاب الحشا شغفًا، كأنّ العاشق تائهٌ في غفلة الزمن، غارقٌ في بحرٍ من الجمال الذي لا تدركه العقول.
لقد وهبها الروح، واستراح لها كل غالٍ ورخيص، ففي محراب عشقها، يصبح كل ثمنٍ بخسًا.
لهوٌ طويلٌ في مفاتنها، استقبلت العاشق بحضنٍ دافئٍ مرن، عانقته بلا خوفٍ ولا خجل، وثغرها جاد عليه بالغيث والمزن، حتى توارت الشفاه في شفائفها، ودخل في نوبةٍ عظمى من الوسن، وجد في صدرها الدفاق متكأه، وفي لمى شفتيها رست سفنه.
إنها الفتنة التي تفوق كل فتن الأرض، والله لم يُخلق لها مثلٌ فوق الثرى أبداً في سائر الزمن.
كيف لا وهي مهد الحضارات، وعرش بلقيس العظيم، وقصور غمدان التي تهوى إليها كل نفس مفتونة؟
في ترابها حُفرت أعمق الذكريات، ومن صخورها نُحتت أروع الحكايات، وعلى رمالها كُتبت أبهى قصائد المجد.
اليمن ليست أرضًا تُطأ بالأقدام، بل هي وطنٌ يسكن الروح، يتغلغل في شغاف القلب، ويجري في العروق مجرى الدم.
لكن ما بالُها اليوم بالأوجاع مثقلة؟
تشكو سطوة الآلام والمحن؟
تنزف القهر في صنعاء، وتصطلي جحيم البؤس في عدن.
هذا الألم ليس مجرد شكوى، بل هو صرخةُ حقٍ تكسر حواجز الصمت، صرخةٌ تخرج من أعماق تاريخٍ عريق، من روحٍ لم تعرف الانكسار.
تفاءلي يا ربا قحطان، وابتسمي، وعانقي التاريخ، لأن البين قد أرّق الروح، وأوجع الفؤاد.
بإرادة بلقيس وحكمتها، وبسيف ذي يزن وشموخه، يأتي سفير هذه الأرض، صوتها الحر في الأقطار والمدن.
يحمل في قلبه نبض تاريخها، وفي عقله نور حكمتها، وفي يديه سيف إرادتها.
هو ليس مجرد فرد، بل هو تجسيد لروح اليمن الأبية التي لا تنحني، صوت يصدح بالحق، ولسان ينطق بالفخر. فمنذ الولادة، لو خُير في وطن، لقال بلا تردد، بلا أدنى شك: "أنا يمني".
هذه الكلمة ليست مجرد انتماء، بل هي عهد، هي قسم، هي إقرار بأن الروح والجسد فداء لهذه الأرض الطاهرة التي اختارها كفنه، وفي ثرى روحها يدفن جسده، ويكتب فوق قبره: عاشق اليمن.
فهل أتاك حديث القوم من إرم ذات العماد؟ سواها قط لم يكن. في محراب العشق اليمني، تُليت للعشق سورٌ بمحكم الذكر والآيات والسنن،
لتؤكد أن هذا الحب ليس مجرد عاطفة، بل هو إيمانٌ عميقٌ راسخٌ في أعماق الوجود، فلسفةٌ تتجاوز الزمان والمكان، وتسمو فوق كل ما هو مادي.
اليمن ليست مجرد بلد، بل هي قضية الوجود، هي النبض الذي يحيي الأرواح، والملهم الذي يصوغ أجمل المعاني.
ملاحظة :
المقال مستوحى من قصيدة الشاعر عبدالكريم العفيري قصيدة وجئت من سبأ اشدو بقافيتي...