اليمن: أسطورةٌ من المجد، وصرخةٌ في أعماق التاريخ
يا يمن! يا منارةً سطعت على جبين الزمان، ويا مهدَ الحضارات التي أينعت في ترابك الطاهر! إن اسمك وحده كفيلٌ بأن يُوقظ في الروح حكايات المجد والشُموخ، وأن يُبحر بالخيال في بحرٍ متلاطم من التاريخ العريق.
أنتِ لستِ مجرد بقعةٍ على الخارطة، بل أنتِ روحٌ تسري في شرايين الإنسانية، وكنزٌ لا تُقدّره الأثمان.
قصةٌ كتبتها يد الزمن: مجدٌ شامخٌ وآثارٌ باقية
ما أن تطأ قدماكِ أرض اليمن، حتى تُصافحكَ هيبةُ التاريخ وشموخُ الأجداد.
هنا، تتحدث كل حبة رمل عن أمجادٍ تليدة، وتُروى كل صخرةٍ عن حضاراتٍ سادت ثم بادت، تاركةً خلفها إرثًا لا يمحوه غبار السنين.
فمن أين نبدأ الحديث عنكِ يا يمن؟ هل من عرش بلقيس، الذي ما زال يُشهد على عظمة امرأةٍ حَكَمَتْ بحكمةٍ فاقت رجال زمانها؟
أم من سد مأرب العظيم، الذي لم يكن مجرد بناءٍ هندسي، بل كان شريانَ حياةٍ لأمةٍ بأكملها، درسًا في التخطيط والبناء الذي أدهش العالم؟!
تتحدث النقوش المسندية على الجبال والصخور، لتُروي قصص ملوك سبأ وحمير ومعين وقتبان وحضرموت، الذين بنوا إمبراطورياتٍ ومدنًا عتيقةً تغلغلت جذورها في عمق التاريخ.
يا لجمال مدنكِ العتيقة! صنعاء القديمة، درةٌ معماريةٌ لا مثيل لها، بيوتها الطينية الشاهقة تُعانق السماء، وأزقتها الضيقة تضجُّ بعبق التاريخ وتُهمس بأسرار الأزمان.
شبام حضرموت، "مانهاتن الصحراء"، ناطحات سحابٍ من الطين تُعانق الغيوم، شاهدةً على عبقرية الإنسان اليمني في التكيف والبناء. وزَبِيد، التي كانت منارةً للعلم وموطنًا للفقهاء،
ما زالت تحتفظ بطابعها الإسلامي الأصيل. كل حجرٍ في هذه المدن يحكي قصة فنٍ وجمالٍ وعمرانٍ فاق الوصف.
جنانٌ على الأرض: طبيعةٌ تُذهل العقول
لم يكن المجد اليمني مقتصرًا على إنجازات البشر فحسب، بل كانت الطبيعة نفسها تُشارك في رسم لوحةٍ فنيةٍ إلهية.
يا له من جمالٍ أخّاذ يتجسد في شلالاتكِ المتدفقة كجداول اللؤلؤ على الصبال الخضراء، تُراقص الصخور وتُرتّل أنشودة الحياة!
من "حمام دمت" إلى "شلالات بدبد"، كل قطرة ماء تروي قصةً عن الخصب والنماء.
وينابيعكِ المتفجرة من جوف الأرض، كأنها عيونٌ تُبصر النور، تُروي العطشى وتُحيي الأرض.
عيونكِ الطبيعية، التي كانت مصدر إلهام للشعراء وملاذًا للمتعبين، تُضفي على المشهد رونقًا خاصًا.
لا يمكن إغفال التنوع البيولوجي الذي يزخر به كل وادٍ وجبل، حيث تتجلى قدرة الخالق في أبهى صورها.
الزهور البرية تُلون السهول والجبال بألوانٍ زاهية، تُعطر الأجواء بعبقها الفواح، وتجذب إليها الفراشات بأجنحتها المُزركشة، ترقص في تناغمٍ يُبهج الناظرين.
والسحب، تلك اللوحات الفنية المتغيرة في سمائكِ، تُبشر بالخير وتُضيف إلى جمال المشهد بهاءً وسحرًا.
والمطر، حين يهطل، يُغسل كل شيء، ويُجدد الحياة، ويُعيد إلى الأرض نضارتها، وكأنه يُبارك هذا الجمال الأبدي.
صرخةٌ في وجه الواقع: عبث الأبناء بمجد الأجداد
ولكن، يا لَلأسف! ويا لَلجرح الغائر في قلب كل محبٍ لليمن! كيف لِتاريخٍ بهذا الشموخ، وجمالٍ بهذا السحر، أن يُعبث به وبمجده أبناؤه؟!
كيف لِأيدٍ كان الأجداد بها يبنون ويُشيدون، أن تتحول اليوم إلى معاول هدمٍ ودمار؟!
إنها قصةٌ مؤلمةٌ تُدمي الفؤاد، أن نرى أعمدة المجد تتهاوى بفعل النزاعات، وقصور التاريخ تُهدم بأيادٍ كان الأجدر بها أن تحميها.
أن نُشاهد مدنكِ العتيقة، التي صمدت لآلاف السنين في وجه الكوارث الطبيعية، تُشوّه وتُدمّر بفعل أيادي البشر.
لقد أصبحت شلالاتكِ تُروي قصص الدموع، وينابيعكِ تختنق بغبار المعارك، وزهوركِ تذبل قبل الأوان.
تاريخكِ العظيم، يا يمن، كان يُراد له أن يكون منارةً للأجيال، ولكنه اليوم يُلطّخ بدماء الأبرياء. مجدكِ وشموخكِ، اللذان كانا يُلهمان العالم، باتا يُعانيان من جراحٍ عميقةٍ تُهدد هويتكِ.
إنها مأساةٌ حقيقيةٌ أن يتحول أبناء الأرض الواحدة إلى خصوم، وأن تُلقى آمال الأمة في مهب الريح.
أملٌ ينبض في الأعماق: دعوةٌ للعودة إلى الذات
ولكن، رغم كل الآلام، يبقى في أعماق كل يمنيٍ شريفٍ أملٌ لا يموت. أملٌ بأن تعود اليمن إلى مجدها، وأن تستفيق من كبوتها.
إنها دعوةٌ صادقةٌ إلى أبناء اليمن، للعودة إلى رشدهم، لتضميد الجراح،
ولتذكر أن التاريخ لن يرحم من فرّط في هذا الإرث العظيم. فليعدوا بناء ما تهدم، وليصونوا ما تبقى، وليرفعوا مجددًا راية الشموخ التي ورثوها عن أجدادهم.
يا يمن، ستبقى أسطورةً في قلوبنا، وسيظل مجدكِ يضيء رغم كل العتمة.
وسنظل نحلم باليوم الذي تُعيدين فيه كتابة تاريخكِ بمداد السلام والعمار، لتُثبتي للعالم أنكِ قادرةٌ على النهوض من تحت الرماد، وأنكِ تستحقين أن تعودي كما كنتِ، "اليمن السعيد".