Logo

"الأمير" لنيقولا ميكيافيلي: حين تتعرى السياسة من الأخلاق

 في زمنٍ كانت فيه الفلسفة السياسية تتزين بالمثاليات، وتُنسج تصورات الحاكم الفاضل على طريقة أفلاطون وأرسطو، خرج نيقولا ميكيافيلي بكتاب صادم، جريء، وبلا رحمة، ليقول ببساطة إن السياسة لا يحكمها الخير، بل القوة، ولا تُدار بالحكمة، بل بالمكر إن لزم الأمر.

 "الأمير" ليس مجرد دليل للحكام، بل أشبه بكتيّب يصف بدقة علمية باردة كيف تُمارَس السلطة في العالم الواقعي، لا في المدينة الفاضلة.

كتب ميكيافيلي كتابه عام 1513 أثناء نفيه من فلورنسا بعد انهيار الجمهورية وسقوطها في يد عائلة آل ميديتشي. 

وفي خضم الإحباط السياسي والفراغ الأخلاقي الذي كانت تمر به إيطاليا آنذاك، كتب هذا العمل الشهير كمحاولة لاسترضاء الحكام الجدد عبر تقديم ما يمكن وصفه اليوم بدليل استراتيجي للسيطرة على الحكم، والحفاظ عليه، وبناء دولة قوية، ولو على حساب القيم والأخلاق.

جوهر الكتاب يقوم على فكرة أساسية مفادها أن الحكم لا يقوم على المثالية، بل على القدرة.

 فالأمير ليس مطلوبًا منه أن يكون طيبًا، بل أن يبدو طيبًا عند الحاجة، ولا بأس أن يخدع، يكذب، ويغدر، ما دام ذلك يخدم استقرار حكمه ومصلحة دولته. 

الناس، بحسب ميكيافيلي، لا يحكمون على الأمور إلا من خلال ما يرونه بأعينهم.

 إنهم لا يهتمون بما إذا كان الحاكم عادلًا أم لا، صادقًا أم كاذبًا، بل بما إذا كان قويًا، حاسمًا، ويحفظ الأمن.

ميكيافيلي لا ينفي أهمية الأخلاق، لكنه يرى أنها ليست دائمًا مفيدة في السياسة، وغالبًا ما تكون عقبة أمام النجاة. 

ولذلك، يشبّه الحاكم الناجح بالحيوانين: الأسد والثعلب. الأسد للقوة والهيبة، والثعلب للمكر والخداع. 

فإن لم يكن الحاكم قادرًا على الجمع بينهما، فقد لا يبقى طويلًا على العرش.

في نظره، القوة وحدها لا تكفي، ولا الفضيلة وحدها. إنما المطلوب هو فنّ استعمال الوسائل المناسبة في الوقت المناسب.

 فالحاكم يجب أن يعرف متى يكون رحيمًا، ومتى يبطش بلا رحمة. 

متى يكرم، ومتى يبطش. متى يعِد، ومتى ينكث. والفيصل في كل ذلك هو مصلحة الحكم واستقرار الدولة، لا أي اعتبار أخلاقي مجرد.

ولعل من أكثر النقاط إثارة في "الأمير" هو حديثه عن الخوف والمحبة، حيث يقول إن الأفضل للحاكم أن يُخاف لا أن يُحب، لأن المحبة خادعة وسريعة الزوال، أما الخوف فهو أكثر رسوخًا في قلوب الناس. 

لكنه يشدد على أن يُخاف الحاكم دون أن يُكرَه، وهو خيط دقيق يصعب السير عليه، لكنه ضروري للنجاة السياسية.

كذلك يحذر من الاعتماد على الجيوش المرتزقة، ويدعو إلى بناء قوة عسكرية وطنية مخلصة، لأن الأمير الذي لا يملك قوته الذاتية سيظل رهينة لمن يملك السلاح. 

كما يحلل أنواع الإمارات، ويبين كيف يمكن الحفاظ على الحكم في الدول الجديدة أو الموروثة،

 موضحًا أن من يحكم بلدًا اعتاد على الحرية سيواجه مقاومة شرسة ما لم يبنه من جديد.

في فصوله الأخيرة، يعترف ميكيافيلي بتأثير "الحظ" في صعود أو سقوط الحكام، لكنه يرى أن الحظ يُروض بالإرادة والذكاء.

 فالحاكم الذكي هو من يغتنم الفرص ويتكيّف مع المتغيرات، ولا ينتظر أن تخدمه الظروف.

 وهنا، يقدم واحدة من أكثر أفكاره شهرة: "الحظ امرأة، ولا يُسيطر عليها إلا من يضربها بقوة". 

عبارة صادمة، لكنها تعبّر عن فلسفة تقوم على أن من لا يبادر ويسيطر، سيُدهَس تحت عجلة الأحداث.

رغم كل هذا، لا يمكن اعتبار ميكيافيلي شريرًا أو داعية للطغيان كما صُوّر عبر القرون. 

بل ربما كان صادقًا إلى حد الوحشية في وصف الواقع كما هو، بلا تجميل ولا تزويق.

 لقد أراد أن ينقذ وطنه من الفوضى والانقسام، واعتقد أن الطريق لذلك هو بناء دولة قوية بأي وسيلة. 

فحين تفشل الأخلاق في حماية الأوطان، يرى ميكيافيلي أن الواجب هو أن تفعل ما يلزم، لا ما يُفترض.

"الأمير" ليس كتابًا يُقرَأ ليُحتذى، بل ليُفهم. إنه يضعك وجهًا لوجه مع منطق السلطة، كما يُمارَس خلف الكواليس. 

ولذلك، لم يكن مستغربًا أن يُحرَّم هذا الكتاب في الكنيسة الكاثوليكية، أو يُتهم ميكيافيلي بالإلحاد والشيطنة. 

لكنه، رغم كل شيء، غيّر مسار الفكر السياسي إلى الأبد، ومهّد لولادة الواقعية السياسية كما نعرفها اليوم.

في النهاية، تبقى رسالة "الأمير" واضحة: السياسة ليست حقلًا أخلاقيًا، بل ساحة معركة. ومن أراد أن يحكم، عليه أن يعرف كيف يربح، لا كيف يكون طيبًا.