Logo

اليمن تدفع الثمن: عندما يصبح "مكافحة الإرهاب" أداة في يد السلطة

  قصة وطن عريق تنهكه تناقضات السياسة الدولية واستغلال المصطلحات

اليمن، هذا الوطن العريق ذو التاريخ الضارب في عمق الحضارة، وجد نفسه لعقود حبيس لعبة معقدة من المصالح والأجندات الإقليمية والدولية. 

فما بين صعود ظاهرة التطرف العنيف واستغلال السلطة لها، دفع اليمنيون ثمنًا باهظًا، وما زالوا يتخبطون في عواقب سيناريوهات لم يكونوا صانعيها.

صناعة الفوضى: تحولات معقدة

يعود جزء كبير من مأساة اليمن اليوم إلى تلك المرحلة التي شهد فيها العالم صراع القوى العظمى. في ثمانينيات القرن الماضي، ومع احتدام الحرب الباردة، جرى دعم وتدريب جماعات مختلفة في أفغانستان لمواجهة الاتحاد السوفيتي. 

هذا التحالف، الذي كان تحالف مصالح جيوسياسية، انتهى بانهيار الاتحاد السوفيتي، ليخلف وراءه فراغًا هائلًا وغيابًا لاستراتيجية واضحة لما بعد الصراع. المقاتلون، الذين اكتسبوا خبرات قتالية وتلقوا تدريبًا أيديولوجيًا، عادوا إلى أوطانهم أو تفرقوا في أنحاء العالم، 

حاملين معهم أفكارًا حول التغيير، وموجهين بوصلتهم نحو الأنظمة القائمة أو القوى الغربية التي اعتبروها معوقًا لأهدافهم.

بعد أحداث 11 سبتمبر، شهدت الساحة الدولية تحولًا دراماتيكيًا. هنا، برز دور بارز لفاعلين دوليين في تحديد مفهوم "الحرب على الإرهاب" والتعامل مع تداعياته. 

لقد أصبح مصطلح "مكافحة الإرهاب" أداة قوية، بمثابة "ضوء أخضر" (أو غطاء)، تستخدمها العديد من الأنظمة لضرب خصومها السياسيين والمعارضين.

 بات من السهل وصم أي حركة معارضة، سلمية كانت أم مسلحة، بـ"الإرهاب"، مما يبرر قمعها بأشد الوسائل، وتقييد الحريات العامة، بل وحتى الحصول على دعم دولي غير مشروط بحجة المشاركة في هذه "الحرب العالمية".

استغلال السلطة في اليمن: أداة بيد الرئيس الراحل

في اليمن، استغل الرئيس الراحل علي عبد الله صالح هذه الأجندة ببراعة تامة. فمنذ اللحظة التي برز فيها مصطلح "الإرهاب" كشماعة دولية، ركب صالح موجته بامتياز. 

لم يكن اهتمامه بمحاربة التطرف حقيقيًا بقدر ما كان استغلالًا للمخاوف الدولية لتعزيز قبضته الحديدية على السلطة. لقد استخدم "الإرهاب" كذريعة للقضاء على خصومه السياسيين والعسكريين، وشرعنة حملات القمع تحت غطاء "مكافحة الإرهاب".

الأكثر إيلامًا أن بعض الجماعات التي برزت ككيانات "إرهابية" في اليمن، كانت هناك شكوك قوية حول علاقاتها بأجهزة نظام صالح. فبعض القيادات والأعضاء كانوا مقربين من الأجهزة الأمنية، مما يشير إلى تلاعب محتمل بهذه الظاهرة لخدمة أجندته الشخصية.

 للأسف، كانت قوى دولية كبرى على علم بهذه التعقيدات، وربما تغاضت عنها طالما كانت تخدم مصالحها في المنطقة أو توفر لها "شريكًا" في حربها المعلنة ضد الإرهاب. 

هذا التغاضي منح الأنظمة، مثل نظام صالح، فرصة لاستغلال هذا المفهوم لقمع خصومها.

لقد ترك الرئيس الراحل علي عبد الله صالح خلفه سمعة اليمن مدمرة داخليًا وخارجيًا. فالبلد الذي اشتهر بتاريخه العريق وحضارته الغنية، أصبح في نظر العالم مرادفًا للفقر والصراع، وبؤرة للتطرف. 

وهذا ما جعل اليمنيين، غالبًا الأبرياء، عرضة للشكوك والشبهات في كل دول ومطارات وسفارات العالم. هم من يدفعون ثمن أجندات لم يكونوا طرفًا فيها،

 ويعانون من تبعات سياسات أفسدت سمعة وطنهم وعرضتهم للتدقيق والبحث المستمر، رغم براءتهم المطلقة من هذا التلاعب.

المشهد الحالي: استمرارية الاستغلال

المفارقات في هذا السيناريو لا تتوقف. ففي المشهد اليمني الحالي، نرى جماعات كالحوثيين، التي تصنفها أطراف دولية نفسها كـ"إرهابية"، تدعي أنها تحارب الإرهاب. 

بهذا، يلتقي خطابهم، وإن كان لأسباب مختلفة وأجندات مغايرة، مع خطاب القوى الكبرى، في مفارقة تكشف عن مدى التناقض في استخدام هذا المفهوم.

 فالكل، على ما يبدو، يسعى لاستغلال هذه الأجندة لضرب خصومه وتبرير سياساته، حتى لو كان ذلك يعني تبني خطابًا مشابهًا لمن يعاديه. 

هذه الديناميكية تؤكد كيف يمكن للمصطلح أن يتحول إلى أداة مرنة في أيدي أطراف مختلفة، كل يلوح بها لخدمة أهدافه الخاصة.

تبعات لا تزول: اليمن يدفع الثمن الأكبر

إن هذه القصة تذكرنا دائمًا بأن السياسات الدولية، مهما كانت أهدافها المعلنة، يمكن أن تنتج عنها عواقب وخيمة غير مقصودة أو حتى مستغلة بسوء نية. 

ففي حين تسعى الدول الكبرى لتحقيق مصالحها الجيوسياسية، وتعمل الأنظمة على تعزيز قبضتها، 

يبقى الشعب، في دول مثل اليمن، هو من يدفع الثمن الأكبر لهذه الألاعيب والتحولات في لعبة المصالح العالمية. 

واقعٌ مرير، يحتاج إلى وعي عالمي يرفض أن تتحول مفاهيم الأمن إلى غطاء لقمع الشعوب وتدمير الأوطان.