أمن الخليج لا يكتمل دون حل معضلة اليمن
سبق أن كتبت في عام 2012 بعنوان “أمن الخليج ضمن المنظومة الإقليمية الأشمل بما فيها اليمن”، ويمكن الرجوع الى ماكتبت بالبحث في جوجل عن العنوان المشار اليه لفهم الأساس النظري والتحليلي الذي انطلقت منه هذه الرؤية وما يلي يمثل اضافة على ضوء التحولات العميقة التي شهدتها المنطقة حتى عام 2025 ..
منذ أن أعلنت بريطانيا انسحابها من شرق السويس عام 1967 ورفعت الحماية عن دول الخليج حتى 1971 دخلت المنطقة مرحلة جديدة من الفراغ الأمني ما دفع دول الخليج للبحث عن بدائل خارجية لضمان استقرارها خاصة مع تصاعد التهديدات الإقليمية والدولية التي تراوحت بين الثورة الإيرانية والغزو السوفيتي لأفغانستان ..
مرورا بالحرب العراقية الإيرانية وصولا إلى الاحتلال الأمريكي للعراق وما أعقبه من اضطرابات عنيفة شكلت جميعها دافعًا لتكريس الاعتماد على المظلة الأمنية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة ..
وقد ساهم هذا النمط الأمني في إنتاج توازن هش غير قابل للصمود في وجه المتغيرات العميقة التي بدأت تظهر مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ..
غير أن الأحداث اللاحقة بدءًا من اضطرابات ما بعد الربيع العربي ومرورًا بصعود الفاعلين من غير الدول مثل الجماعات المسلحة ووصولا إلى الحرب في اليمن أعادت طرح سؤال الأمن الخليجي ليس من زاوية حماية الدول من الخارج فحسب بل من زاوية ضمان تماسكها الداخلي ومتانة مؤسساتها الوطنية ..
وهنا برزت محدودية النهج القائم على التسلح والتحالفات الخارجية وحدها مما فتح المجال أمام نخب سياسية وفكرية خليجية لمراجعة السياسات التقليدية واقتراح نماذج بديلة تأخذ في الاعتبار التغير في موازين القوى العالمية مع صعود الصين والهند وتراجع القبضة الغربية الأحادية ..
إن الحرب الدائرة حاليًا بين إيران وإسرائيل والتي اندلعت في أعقاب تصاعد الاستفزازات العسكرية حول البرنامج النووي الإيراني والهجمات السيبرانية والمنشآت الحيوية في كلا البلدين قد أرخت بظلالها الثقيلة على أمن الخليج ..
حيث باتت منطقة الخليج جزءًا مباشرًا من ساحة الاشتباك في ظل التداخل الجغرافي والاقتصادي والأمني بين دول الخليج وإيران من جهة والتنسيق الأمني الخليجي مع الفاعلين الاقليميين من جهة أخرى ..
وهو ما دفع بعض دول الخليج إلى إعادة تقييم نهجها في علاقاتها الإقليمية وخصوصا بشأن الحاجة إلى قنوات اتصال مباشرة مع القوى الاقليمية لتفادي الانجرار إلى مواجهة شاملة لا تخدم مصالحها الاستراتيجية ولا استقرار شعوبها ..
وفي هذا السياق تبرز أهمية اليمن باعتباره طرفًا محوريًا في معادلة أمن الخليج لا سيما بعد أن أظهرت الحرب في اليمن هشاشة الخطط الأمنية الإقليمية القائمة على التحالفات العسكرية فحسب
فاليمن لا يمثل فقط عمقًا جغرافيًا استراتيجيًا للخليج بل أيضًا ساحة اختبار لمفاهيم جديدة للأمن الإقليمي القائم على الشراكة والتنمية والاستثمار طويل الأجل وإن استبعاد اليمن من مشاريع التكامل الخليجية طوال العقود الماضية قد ساهم في إنتاج حالة من الانفصال السياسي والاجتماعي
تحتاج اليوم إلى تجاوزها من خلال إعادة دمجه ضمن آليات اقتصادية وأمنية شاملة تستوعب مصالحه وتدعم استقراره ..
ولذلك فإن إعادة التفكير في البنية الأمنية للمنطقة يتطلب تصورًا جديدًا يتجاوز النموذج القائم على الاستقواء بالخارج أو على التنافس الداخلي ويؤسس لمنظومة أمنية جماعية تشمل الخليج واليمن ودول الجوار وتعتمد على أدوات سياسية واقتصادية وثقافية ناعمة ..
بالإضافة إلى التعاون العسكري المحدود والضروري وهو تصور لا يمكن تحقيقه دون توفر إرادة سياسية شجاعة ومبادرات فكرية مستقلة تتجاوز الاصطفافات التقليدية وتسعى لبناء شبكة مصالح متبادلة عابرة للمخاوف والهواجس العقائدية والإيديولوجية ..
وأمام التحولات الدولية الراهنة والتراجع النسبي للدور الأمريكي التقليدي في المنطقة فإن دول الخليج مطالبة اليوم بصياغة رؤيتها الخاصة للأمن الإقليمي بالشراكة مع قوى دولية صاعدة مثل الصين والهند ومع دول الجوار الحيوية كالعراق واليمن مع فتح قنوات تواصل منظم مع كل الفاعلين الاقليمين تقوم على مبدأ التوازن والاحترام المتبادل ..
ولا يمكن لهذا المسار أن ينجح دون تطوير أدوات العمل الدبلوماسي الخليجي واليمني وفتح المجال لمجتمعات المنطقة لتكون شريكة في رسم ملامح المستقبل بعيدا عن اختزال الخليج في بعده النفطي أو الأمني فقط بل باعتباره فضاءً مؤهلا لبناء نموذج استقرار إقليمي جديد ..
* سفير بوزارة الخارجية