Logo

بيان النصر الكوني: حين يخسر المنتصر وينتصر الخاسر!

 هكذا..في زمنٍ أصبحت فيه البيانات أعظم من البنادق، والتصريحات أشد وقعا من الطائرات، خرجت علينا الأمانة العامة للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني ببيان هو أقرب إلى نشيد وطني منه إلى تصريح سياسي.
 يبدأ البيان بآية كريمة، ثم يغرق سريعا في نشوة انتصار كُتب بالحبر لا بالبارود، وبالصراخ لا بالصمود.
البيان يروي لنا قصة ملحمية عن الرد على "العدوان الأمريكي" و"الكيان الصهيوني"، عبر استهداف قاعدة العديد الأمريكية وبعض "الأراضي المحتلة"، في مشهد يبدو مأخوذا من فيلم دعائي صنعته وزارة الدفاع على برنامج "موفي ميكر". لا توثيق، لا نتائج، فقط بيان مدجج بالجمل المفعمة بالإيمان والثقة… كأننا نعيش في عالم موازٍ.
لكن المفارقة الساخرة الحقيقية تكمن في الجزء الذي يعلن فيه البيان، بلهجة لا تخلو من النشوة الروحية، أن الشعب الإيراني "انتصر"! كيف؟
 عبر "الصبر"، و"الحكمة"، و"صمود المجاهدين"، و"الوعي العظيم".
نعم..هه هههههههههههه لا شيء عن الخسائر، أو الواقع الكارثي، أو الدماء التي لم تجف بعد.بينما كل شيء تم حسمه في أروقة البلاغة الثورية.
والأجمل، تلك العبارة التي تستحق أن تُطرز على لافتة عند مدخل كل مدينة منكوبة: "من الآن فصاعدا، سيتم الرد الحاسم والمباشر." 
اها..ممتاز! بعد أسبوعين من القصف والمجازر والدمار، تقرروا الآن أن "تردوا" وكأن ما سبق كان مجرد تدريب تمهيدي أو جلسة تأمل جماعية.
والشاهد أن لا حاجة لخبراء تحليل استراتيجي لنفهم أن هذا البيان لا يُخاطب العدو، بل الشعب المرهق، المتعب، الذي يُطلب منه أن يصفق لانتصار وهمي كي لا ينهار من وطأة الحقيقة. 
فبينما تُدمر بيوت العرب على رؤوس ساكنيها، ويُحاصر الأطفال والنساء، يخرج علينا من يطالبنا بالتصفيق لأنهم "فرضوا" على العدو وقف إطلاق النار… وكأن العدو جلس مطأطأ الرأس يطلب الصفح ويقدم الورود.
في الواقع، العدو لم يُهزم، والبيان لم ينتصر، وإنما انتصرت اللغة على المنطق، وانتصرت الرواية الواهمة على الحقيقة.
حقيقه هذه ليست مقاومة بقدر ما هي مسرحية، يُعاد عرضها كل مرة بنفس الحبكة: قصف، بيان، نشيد، ثم لا شيء.
وهكذا، في عالم البيانات، يمكن أن تُعلن النصر في معركة لم تربحها، فقط لأنك كتبت جملة أخيرة تقول:
"وما النصر إلا من عند الله."
ويا له من نصر… لو كان بالكلمات!
لكن يبدو أننا أصبحنا نعيش في عصر الانتصارات الافتراضية والبطولات الورقية، إذ تتحول البيانات إلى صواريخ، والتصريحات إلى راجمات، والبيان الصحفي إلى معركة ملحمية تقلب موازين القوى... على الورق فقط.
نعم ..بيان "الأمانة العامة للمجلس الأعلى للأمن القومي" الإيراني حول فرض وقف إطلاق النار على "العدو الصهيوني وداعميه الإرهابيين" لا يختلف كثيرا عن فيلم أكشن سيء الإنتاج، تصرخ فيه الشخصيات كثيرا دون أن تُصاب بقطرة عرق أو خدش صغير.
و في هذا البيان، نجد مسرحية مذهلة من الكلمات الكبيرة، تبدأ بآية قرآنية، ثم تُتبع بقصة أسطورية عن رد إلهي على "العدوان الأمريكي"، يختتم بهجمات صاروخية على "قاعدة العديد" وأراضي محتلة، وكأن الأمور سارت كما خطط لها الجنرال المجهول في مخيلته. لكن على الأرض؟
 لا جديد، لا تغيير، فقط مزيد من الدخان ومزيد من الأشلاء... ومزيد من البيانات.
بالتأكيد السخرية لا تكمن فقط في العبارات المتفجرة واللغة الشعرية، بل في توقيت إعلان "الانتصار".
 فبينما تهوي الصواريخ من السماء، وتحترق المدن، ويُدفن الأبرياء تحت الركام، يخرج علينا البيان ليبشرنا بأن "العدو قد هُزم"! هُزم كيف؟ بالبيان؟ بالنية الطيبة؟ أم بعشرات الصور المنشورة لجنود يلوحون بأيديهم أمام كاميرا وكالة الأنباء الرسمية؟
والحق يقال يبدو أن من كتب البيان يعتقد أن العالم ما زال يعيش في زمن ما قبل الإنترنت. في زمن السرداب المقدس!
لكن للأسف ، العالم يرى ويسمع ويقارن. يرى كيف تُقصف غزة وتُحاصر شعوب وتُحرق خيام اللاجئين، ثم يُقال: "لقد فرضنا عليهم وقف إطلاق النار!" وكأن الصمت المفروض على المظلومين هو إعلان نصر للمقاومين.
ثم تأتي الجملة الذهبية: "من الآن فصاعدا، سيتم الرد الحاسم والمباشر على أي عدوان." رائع! .
أي بعد كل هذا الدمار والدماء، نبدأ من "الآن فصاعدا". 
فيما يبدو أن كل ما مضى كان مجرد بروفة، اختبار صوتي لنبرة الحزم في البيانات.
والحقيقة المرة؟ أن العالم يعرف، حتى شعوب المنطقة تعرف، أن معظم هذه البيانات مصممة للاستهلاك المحلي، لخلق شعور زائف بالبطولة والانتصار، بينما الجراح ما زالت تنزف، والدماء لم تجف، والعدو... ما زال يسرح ويمرح.
والخلاصة؟ نحن أمام فصل جديد من فصول "الانتصارات العكسية"، فيما يقف الطرف الذي دُمر ليعلن النصر، ويغيب المنهزم الحقيقي عن المسرح ليضحك في الكواليس. 
وإذا كان هذا نصرا... فكيف تبدو الهزيمة؟