Logo

اليمن: سيدة العرش القديم وحكاية الوجود السرمدي

 يا أيها الواقف على عكاز الحداثة، المستجدي فتات الحضارة من موائد "المُحدَثين"، تعالَ وخذْ بيدي إلى حيث تهمس الروح في أذن الوجود؛ إلى اليمن، لا كبلدٍ على خارطةٍ تُطوى، بل كصرخةٍ مدوّيةٍ في أروقة التاريخ، لوحةٍ فنيةٍ سُطرت بماء الذهب ودم الأبطال، وفلسفةٍ متكاملةٍ للتعايش مع الأيام.

في البدء كان اليمن، لا مجرد نقطةٍ على الأرض، بل نقطةُ ارتكازٍ للكون، ومحورٌ تدور حوله قوافل الفجر. 

هنا، من رحم الطوفان، كانت أولى خطى البناء، فانتصبت الحصون كأضلاع كاهنٍ يتعبد، والقلاعُ شمخت كعناقيدِ مجدٍ لا تذبل، والقصورُ تشبثت بالجبال المدرّجة كحكايات عشقٍ معلقةٍ بين الأرض والسماء. 

أي سحرٍ هذا الذي يجعل البيوتَ تتحدى الجاذبية، لتُعلّق في الفضاء، كأنها قلاعُ أحلامٍ لا تهزمها الرياح؟ 

هذه ليست مجرد مساكن، بل هي تجلياتٌ بصريةٌ لفلسفة الوجود المتشبث بالقمم، الرافض للانحدار.

وقبل أن تعرف الجزيرةُ العربيةُ بيوتَ القشّ والخيام، وقبل أن تتناثر العرائشُ في الصحارى، كانت اليمن تتباهى بسدودها التي ارتوت منها الأزمان، وبملوكها الذين توّجوا بالذهب والأسطورة. 

من التبابعة الذين جابوا الأرض طولاً وعرضاً، إلى الحمايرة الذين نقشت أسماؤهم على صخر الزمن، وذو القرنين الذي حُيكت حوله الحكايات، وصولاً إلى إفريقيس الذي لم تسمَّ قارةٌ باسمه عبثًا، بل لتكون تذكيرًا أزليًا بعمق اليد اليمنية في صياغة الجغرافيا والتاريخ.

وها أنت ذا، أيها المتفرج اليوم على هذه الدول والدويلات المتناثرة في الخليج والشام وبلاد الرافدين، تظنّها أُسساً قائمة بذاتها. 

مهلاً! هل غابت عن بصيرتك الحكمة الأزليّة؟ هذه ليست سوى غصونٍ مورقةٍ، نمت من ذات الشجرة الأم، اليمن. هي النواةُ التي سقطت من "سيدة العرش القديم"، فأنبتت في كل بقعةٍ شجرةً وارفةً بظلها. 

وما هذا إلا طبعُ الدنيا، سنةُ الممالك والملوك، "إن هي إلا أيامٌ نداولها بين الناس".

فلماذا يا أحفاد التبابعة، هذا الأسى على ماضٍ ولّى؟ لماذا هذا التلظّي على مجدٍ كان وانقضى؟ 

هل تندمُ الشجرة الأمّ على ثمارها التي تفرقت في البساتين؟

وهل يعاتب البحرُ أمواجه التي تتكسر على شواطئ بعيدة؟

ألا يكفيكم فخراً أنكم أصل الحكاية، ومنبع الأنهار، وأن كل "مُحدث نعمة" اليوم، ما هو إلا وريثٌ لنواةٍ طاهرةٍ خرجت من رحم أرضكم؟

 إنها أيامٌ دُول، ولو دامت لغيرك، ما وصلت إليك. فليكن عزاؤكم، أيها الساخرون من أحوالنا، أن أجدادنا أخذوا نصيبهم وزيادة، فكانوا ملوكاً على الدنيا، وحكاماً على العصور.

وها أنا ذا، أشدُّ الرحال معكم، أيها العقلاءُ الذين أُفْرِغوا من حمولة الأسى، مقتنعاً تمامًا بما آل إليه الأمر، بل وأرى أن المجد الحقيقي والرفاهية العصرية، تكمن في أن نقصِدَ اليومَ تلك البلدانَ "مُحدَثةَ النعمة"، تلك الدولَ الفتيّة التي لم تُنهكها حروبٌ ولا قُلوبٌ مثقلةٌ بالماضي، 

علّنا نجد هناك ضالةَ الراحة، ونستلهمَ منهم "كيفية البدء من جديد" على أنقاض مجدٍ عظيم لا يتسع له زماننا هذا!

فلنترك السلاطين القدماء ينامون في قبورهم بسلام، وليُحلقَ اليمنيون بروحهم الحرة نحو آفاق جديدة، حاملين معهم عبق الأصول، ونكتة القدر، وإيمانًا بأن شمسهم، مهما غابت، هي دومًا مصدر الضياء لكل ما حولها.