Logo

القارة العجوز ستفقد توازنها الاجتماعي تدريجيًا !!

أثار حديث الأخ علي البخيتي مؤخرًا حول منشور لي عن تعزية لأحد معارفي الاتراك هنا كان في حياته يتعامل مع المحتاجين في مطعمه بروح وثقافة الشرق، نقاشًا واسعًا حول حقيقة الحياة في الغرب. 

فقد أشرتُ إلى أن ذلك الشخص الراحل كان يمنح المحتاجين من مطعمه دون تردد، على عكس ما هو شائع في المجتمعات الغربية، حيث لا يمكنك الحصول حتى على رغيف خبز إذا نقص مالك. 

هذا الحوار فتح بابًا واسعًا للنقاش حول طبيعة المجتمعات الغربية، هل هي نموذج مثالي للعدالة الاجتماعية أم أنها تعاني من مشكلات عميقة خلف واجهة التقدم والتنظيم؟

يخلط الكثيرون بين قوة النظام المؤسسي الغربي، الذي يوفر خدمات اجتماعية ويضع تشريعات لحماية الفئات الضعيفة، وبين السلوك اليومي للأفراد. 

صحيح أن المؤسسات موجودة وتقدم المساعدة، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الإنسان الغربي نفسه يتصرف بتعاطف أو تضامن تلقائي مع المحتاجين.

 فالعلاقات الاجتماعية هنا غالبًا ما تقوم على المصلحة، ويعيش الأفراد في عزلة نسبية، بعيدًا عن مفهوم التضامن الأسري والاجتماعي الذي يميز المجتمعات الشرقية. 

في الغرب، إذا وقف محتاج أمام مبنى يضم مئات الموظفين، نادرًا ما يلتفت إليه أحد. وإن دخل محلًا ولم يكن يملك المال الكافي، فلن يحصل حتى على أبسط الحاجات. الموظفون ملتزمون بالقوانين، ولا مجال للتسامح والكرم والتعاطف حتى في الأمور الصغيرة. 

هذه القسوة ليست نابعة من قسوة القلب، بل من ثقافة تقدير الوقت والمال، وسيادة الفردية، وعدم وجود دافع اجتماعي للعطاء العشوائي. كثيرًا ما يُقال هنا: "اذهب واشتغل"، أو "لا نعطي المشردين حتى لا ينفقوا المال على الكحول والمخدرات".

ورغم صورة التقدم والتنظيم، تكشف الأرقام عن أزمة اجتماعية متفاقمة في أوروبا. تشير الإحصاءات الحديثة إلى أن حوالي 900 ألف شخص في أوروبا يعيشون اليوم بلا مأوى، وهو رقم يعادل سكان مدينة كبيرة. 

 الأسوأ من ذلك أن أعداد المشردين ارتفعت بنسبة 30% في السنوات الأخيرة، وبلغت الزيادة خلال العقد الماضي نحو 70%.

 وتعود هذه الزيادة إلى أسباب متعددة، أبرزها ارتفاع تكاليف المعيشة وأسعار الطاقة، إلى جانب تداعيات الأزمات الاقتصادية والحروب. 

ويعاني الفقراء في أوروبا من ظروف سكنية سيئة، حيث تنتشر ظواهر الاكتظاظ، والرطوبة، وسوء النظافة، ما يزيد من معاناتهم اليومية.

أما الفقر، فقد أصبح ظاهرة متجذرة. ففي ألمانيا مثلًا، يبلغ متوسط دخل الفقراء في عام 2024 حوالي 1,099 يورو شهريًا، أي أقل بـ281 يورو من خط الفقر الرسمي. 

وزادت الأزمة الاقتصادية من حدة الوضع، حيث انخفض الدخل الفعلي للفقراء من 981 يورو شهريًا في عام 2020 إلى 921 يورو فقط في 2024 بعد احتساب التضخم. ويعيش في أوروبا 

اليوم أكثر من 5.2 مليون شخص في فقر مدقع، بينهم 1.1 مليون طفل وشاب، و1.2 مليون عامل بدوام كامل. الأخطر أن قدرة نظام الحماية الاجتماعية على تقليص الفقر تراجعت، 

إذ انخفض تأثير التحويلات الاجتماعية من تقليص الفقر بنسبة 28% في 2021 إلى 25% فقط في 2024، ما يعني أن الدعم الحكومي لم يعد كافيًا لمواجهة اتساع دائرة الفقر.

ولا تقتصر الأزمة على الجانب المادي فقط، بل تشمل أيضًا الصحة النفسية. 

تشير الدراسات إلى أن حوالي 40% من الأوروبيين يعانون من اضطرابات نفسية سنويًا، أي ما يعادل 164 مليون شخص. وتتصدر اضطرابات القلق قائمة الأمراض النفسية بنسبة 14%، تليها الأرق والاكتئاب بنسبة 7% لكل منهما،

 ثم الإدمان على الكحول والمخدرات بنسبة تفوق 4%. ورغم خطورة هذه الأرقام، فإن ثلث المصابين فقط يحصلون على علاج مناسب، وغالبًا بعد سنوات من الانتظار. وتكلف هذه الأزمة الاقتصاد الأوروبي مئات المليارات سنويًا.

هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل تعكس واقعًا ملموسًا أراه يوميًا في حياتي هنا في أوروبا. 

فقد شاهدت بنفسي امرأة ألمانية تجمع الزجاجات من القمامة، كانت زميلة جميلة في الجامعة لنا قبل عقود. كذلك مهندس ألماني أعرفه أصبح يجمع القوارير من الشوارع. 

هؤلاء وغيرهم ضحايا الرأسمالية المتوحشة والتفكك الاجتماعي. حتى في مبادرات التبرع، نجد الفارق الثقافي واضحًا، في إحدى المبادرات الرسمية لجمع التبرعات، جمعنا مبلغًا بسيطًا رغم وجود العشرات من الموظفين والمستثمرين، 

بينما في الشرق يمكن جمع أضعاف هذا المبلغ بسرعة، ما يعكس اختلاف ثقافة العطاء بين الشرق والغرب.

الخلاصة أن الغرب منظم، ويملك مؤسسات قوية، لكنها لم تُنشأ بدافع إنساني بحت، بل لاحتواء نتائج الرأسمالية القاسية. من يسقط في الغرب ولا يكون فاعلًا اقتصاديًا، سرعان ما يجد نفسه على هامش المجتمع. 

وتبقى العلاقات الاجتماعية سطحية ومؤقتة، باستثناء العلاقات العاطفية أو الصداقات القوية. من يصف الغرب بأنه جنة اجتماعية، غالبًا لم يعش فيه أو لم يختبر واقعه عن قرب. المؤسسات هنا تعالج نتائج نظام اقتصادي قاسٍ،

 لا يُبقي للإنسان وقتًا أو طاقة للعطاء العفوي أو التضامن الحقيقي. الغرب ليس مثالًا يُحتذى به في كل شيء، ومن يريد فهمه حقًا، عليه أن يعيش تفاصيله اليومية، لا أن يكتفي بصورة النظام من الخارج او معلومات سياحية. 

إن ما سبق يوضح أن أوروبا، رغم تنظيمها ومؤسساتها القوية، تعيش أزمة اجتماعية حقيقية تهدد تماسك المجتمع. 

الأزمة ليست عابرة، بل هي بنيوية وتحتاج إلى إصلاحات جريئة واستثمارات حقيقية في نظام الحماية الاجتماعية، وإلا فإن القارة العجوز ستفقد توازنها الاجتماعي تدريجيًا.

رسالتي لكل من ينتقد دون معرفة، يجب أن ندرك جميعًا أن الفقر والتشرد سيظلان مشكلتين مزمنتين في المجتمعات الغربية، رغم وجود أنظمة دعم اجتماعي قوية.

 ذلك لأن جذور هذه الظواهر عميقة، مرتبطة بطبيعة النظام الرأسمالي الذي يعيد إنتاج الفقر ويعمق الفجوة بين فئات المجتمع، ويضعف الروابط الأسرية والاجتماعية، ويزيد من عزلة الأفراد. 

كما أن البيروقراطية وصعوبة الوصول إلى الدعم تجعل كثيرًا من المحتاجين عاجزين عن الاستفادة من المساعدات. 

ولهذا كنت أقصد في منشوري أن التعامل الإنساني المباشر، كما فعل التركي الذي كان يعطي المحتاجين دون شروط أو إجراءات معقدة، يعكس روح التضامن الحقيقية التي نفتقدها في الغرب واجد ان ثقافتنا الاسلامية في العلاقات الاجتماعية وفي تحفيز العطاء والانفاق ومراقبة الذات هي مثال راقي لانخجل بذلك.