حين تلد الصخور الجبال: فلسفة الانبعاث من الوجع
في لحظات الانكسار العظيم، حين تضيق الأرض بما رحبت، وتُطفأ في القلب آخر شموع الرجاء، لا يبقى أمام الإنسان إلا أن يعيد تأمل العالم لا بعينيه، بل بأعماقه. في هذا التمزق بين فقرٍ يقضم الجدران ومرضٍ ينخر الأرواح، في هذا الازدواج المؤلم، تنكشف الحقيقة لا بصورتها المجملة، بل بعُريها الفادح. لم يعد الشر طارئًا، بل مقيمًا. لم يعد الخير ضوءًا يلوّح، بل قمرًا محاقًا أُغلق في خزائن منسية. هناك، في مركز الاحتراق، تبدأ أسئلة الوجود الحقيقية: من نحن؟ ولماذا احترقنا هكذا؟ وأيُّ أملٍ ما زال يسكن تحت الرماد؟
حين تأكل النار الظفائر، فإنها لا تحرق شعرًا فحسب، بل تشوّه تاريخًا أنثويًا من الحنان، من الطمأنينة، من رمزية الحياة التي تتزين لتستمر. النار ليست فقط أداة حرق، بل كائن رمزي حين تسكن المرأة. فبلقيس التي تمثل الحلم الجمعي المنسي، لم تعد كما كانت: أمًا تحتضن الزمن، بل صارت جمرًا يغوي الهشيم. من هنا ينطلق نداء الشاعر: عودي كما كنتِ أمًّا، لا طلبًا للحنان فقط، بل لاستعادة توازن الوجود. فكلما غابت الأم، تهاوى الأب، وتهاوت الأسرة الوجودية التي كانت تصنع من الحياة معنى، ومن البخور والبنّ والعسل مذاق الأوطان.
ثم يأتي المشهد الساخر المؤلم: من يُعلمنا النحو والتورية في زمن الخراب! إن اللغة في مواسم الألم لا تُرتّب كما تشتهي كتب النحو، بل تُرتّبها صرخات الجياع. البدل هنا لا يعني الاستغناء النحوي، بل هو التحوّل الوجودي من خنوعٍ إلى مقاومة، من انكسارٍ إلى عناد، من درسٍ إلى درس آخر كتبه الجرح لا القواعد. إن البدل في زمن الحريق، لا يحدث على الورق، بل على الجباه وفي الشوارع وفي الجثث الساخنة. نحن لا نبدّل الأسماء، بل نبدّل الهزيمة بالولادة الجديدة.
لا تحسبوا الأرض عاقرًا، ولا تظنوا أن الجذور تموت إن جفّ النبع. فالصخر ذاته، ذاك الذي نحسبه صامتًا، قد يتحول إلى جبل. والليل، مهما طال واتسع، لا يحتكر الزمن. بل هو موسم مثل كل شيء، إذا اكتمل انقلب إلى نقيضه. في هذا المعنى العميق، يكمن سر الوجود: كل نفيٍ يحمل إثباتًا في قلبه، وكل موتٍ يمهّد لولادة أخرى، ولو تأخرت، ولو جاءت على هيئة صرخة لا يسمعها إلا من مازال على قيد الأمل.
الغصن حين يُقطع لا يموت، بل يستدعي في داخله شجرة أخرى. والليل حين يكتمل، لا يمدّ حكمه، بل ينتهي، كما ينتهي كل طغيان إذا بلغ ذروته. المطر قد يتأخر، لكن الأرض لا تنسى كيف تنبت. حتى في الشِحّ، في القحط، هناك في عمق التربة حنين للماء، وحنين للحياة. الأمل لا يولد من الرخاء، بل من صميم المأساة. كأن المأساة رحم، والأمل جنينٌ يُصنع من الألم لا من الترف. ومن بين أضلع الوجع يخرج الضياء، لا هبةً من الخارج، بل مقاومةً من الداخل.
هذه ليست مجرد قصيدة، بل رسالة وجودية تقول لنا: لسنا وحدنا في هذا الخراب، ولَسنا بلا معنى في وسط اللاجدوى. نحن الكائن الذي كلما احترق، ازداد حضورًا. كلما ضاق عليه الزمن، خلق زمانًا جديدًا من قلبه. الكائن الذي لا يحتاج معجزةً سماوية لينجو، بل يخلق نجاته من الطين والنار والخيبة.
وهنا، تتجلّى قمة المعنى: أن تكون النار سبب الاحتراق، لكنها أيضًا سبب التجلّي. أن يكون المرض إعلانًا عن الهشاشة، لكنه في الوقت ذاته دعوة للتماسك. أن يكون الفقر نداءً للتكافل لا للانقسام. أن يكون الخراب مدرسة، لا مقبرة. إننا لا نحتاج أن نخرج من المأساة، بل أن نخرج بها، أن نحملها معنا كعلامة، كدرسٍ، كبذرة حياة جديدة.
هذا المقال لا يجيب عن الأسئلة، بل يعمّقها. لا يقدّم الخلاص، بل يعيد تعريف الألم. لأنه، ببساطة، لا يوجد خلاص خارجي قبل أن يُشعل الإنسان شرارة نجاته من داخله. من حيث احترق، من حيث انكسر، من حيث ظنّ أنه انتهى.
---
ملاحظة: المقال مستوحى من قصيدة "ماذا عن القوم" للشاعر عبدالله البردوني.