Logo

من هو علي البخيتي؟ الرجل الذي تَطَوَّرَ من الصدى إلى الصراع

طبعا في زمنٍ تُنتِج فيه الحرب نسخا متكررة من السياسيين المبرمجين على شعارات ممجوجة، يخرج من بين ركام المعارك رجل لا يمكن أن تُحيط به تسمية أو يُحبَس داخل قالب.
 إنه أفلاطون الذماري علي البخيتي، السياسي اليمني المتمرد، الذي يشبه في تحولاته نهرا جاريا لا يمكن إيقافه، لا لأنه يجهل الاتجاه، بل لأنه لا يعترف بالحدود.
 رجلٌ بدأ من كهف الطائفة، وخرج ليقف في قلب المعركة الفكرية، مكشوف الصدر، يصرخ في وجه الموروث: "أنا حر".
والشاهد أن علي البخيتي ليس مجرد كاتب أو معارض سياسي. هو مزيجٌ صاخب من القلق الوجودي، والمواقف المتغيرة، والنقد الهادئ أحيانا، واللاذع في الغالب.
بل يبدو كمن تعلم أن الشك أصل الإيمان، وأن السؤال أعظم من الجواب، وأن الصمت في زمن الهتاف هو فعل مقاومة.
وإذا أردت أن تفهم علي البخيتي أكثر، لا تراقبه في مواقفه السياسية فحسب، بل أنصت إلى صوته المرتجف حين يتحدث عن ابنته توجان، أو حين يعترف بأنه "زوجٌ سيئ"، و"أبٌ مهووس بالصراع"، 
لكنه رغم ذلك، يذوب عشقا في ابنته الصغيرة ديانا، ويقبل جبين زوجته برسالة طويلة مشحونة بالذنب والامتنان، تصف حياة عاشاها على وقع المطاردات الفكرية، والمواقف الملغومة، والحب الصامت.
في مقاله الأخير، قدّم البخيتي نفسه كمنفي حتى من ذاته، رجل يركض طوال الوقت وهو يعلم أنه لن يصل، لكنه لا يحتمل فكرة التوقف. 
بل يرى نفسه غير صالح كزوج، غير رومانسي، مشغول بمساحات تويتر والبث المباشر، لكنه لا ينسى أن يدفع تكاليف الدفء لعائلته: 
منزل واسع في لندن، وجنسية بريطانية لأطفاله، ومستقبل آمن يقيهم جحيم الوطن الأم، الذي خرجوا منه قبل أن تلتهمهم طائفية الحوثيين أو مآسي الحروب.
لكن ماذا عن علي السياسي؟ هل هو خصم أم صديق؟ ليبرالي ، يساري  ، أم مجرد ناقم؟ 
الحقيقة أنه نقطة التقاء لعناصر متناقضة: خصم شرس للحوثيين، ناقد حاد للإسلام السياسي، لكنه أيضا لا يهادن الأفكار الجامدة، سواءً أتت من رجال الدين أم من اليساريين أو الليبراليين المتكلسين. 
بل لا أحد في مأمن من نقده. 
وفي بعض الأحيان، يبدو كأنه يبحث عن خصم جديد بمجرد أن يسكت خصما سابقا.
وهو في ذلك، يشبه فنان السيرك الفرنسي "فيليب بوتي"، الذي مشى على الحبل بين برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك دون أن يسقط.
 لكن بخلاف بوتي، فالبخيتي يريد أن يسقط. يريد أن يعيش على شفير الهاوية، حيث الخطر الحقيقي، حيث المعنى المتطرف، حيث لا وجود لمسافة آمنة.
و
ولأنه لا يكتب أو يتحدث من أبراج عاجية، فإن خطابه يلامس قلوب كثير من اليمنيين والعرب. يعبر عن ضيقهم من العقول المغلقة، من السلطة المتوحشة، من رجال الدين الذين يحتكرون الجنة ويُدخلون خصومهم النار دون استئذان.
و في عالم تلتبس فيه الحقائق وتذوب فيه الفواصل بين الظالم والمظلوم، يأتي صوت البخيتي جريئا، فوضويا، وأحيانا صادما، لكنه يُحرك الراكد.
الأكثر إيلاما في سيرة علي البخيتي ليس صخبه، بل وحدته الوجودية. 
إذ يبدو وكأنه يدرك تماما أنه "يحرق أيامه" من أجل فكرة، وأنه في نهاية المطاف قد يسقط صريعا برصاصة أو خنجر، كما يصف ذلك بسوداوية واضحة في نصه الأخير.
 لكنه يوصي بعدم إعدام قاتله، لأنه يؤمن أن الجريمة ليست من فعل الفرد وحده، بل من منظومة كاملة أنتجت الوحشية.
بمعنى آخر فإن علي البخيتي، إذن، ليس مشروع زعيم، ولا حتى كاتب يبحث عن مجد شخصي. إنه مشروع إنسان حقيقي، متقلب، مندفع، صادق حتى في تناقضه، يشبه جيلا كاملا 
يعيش على هامش الجغرافيا والتاريخ، جيلا يعيد تعريف البطولة لا في ساحات القتال، بل في قدرته على النجاة من الانهيار الكامل.
والحق يقال، ربما لن يتفق الجميع مع علي البخيتي، وربما لن يحبوه جميعا. لكنه بالتأكيد، لن يُنسى. لأنه، ببساطة، اختار أن يكون الصوت في زمن الصمت، والشك في زمن اليقين، والجنون في زمن الحسابات الباردة.
ولكن..إلى أين يمضي علي البخيتي؟
اظنه يمضي في درب لا تعصمه خرائط ولا تُهديه بوصلات الأيديولوجيا.
رجل اختار أن يمشي حافي العقل في حقل الألغام، لا ليبشر بحقيقة، بل ليفجر الأصنام.
فيما في قلب كل صراع، يقف لا كقائد لجوقة، بل كعازف منفرد على وتر الحقيقة المؤلمة.
وهكذا..يمضي إلى المجهول، لا لأنه ضائع، بل لأن الضياع ذاته صار وطنا.
أي أن كل خطوة منه ثورة، وكل صمته موقف، وكل جنونه حكمة متنكرة.
بمعنى مختلف هو السائر وحده في طريق لم يمهده أحد، ولن يُكمله أحد بعده.
وليس لأنه الأفضل، بل لأنه الأجرأ على الاعتراف بضعفه وهزيمته وانكساره…
نعم..
يمضي علي البخيتي، ليس لينتصر، بل ليفضح وهم الانتصار،
و
يمضي ليقول: الحرية ليست وجهة، إنها سؤال…
والسؤال هو الدين الجديد.!
بقي أن أقول أنني اصطدمتُ مع علي البخيتي كثيرا، لا لعداوة، بل لأن الفكر حين يحتدم، يولد شرارة الصدق. 
واتهمته بالطائفية، ثم ضحكت من مرآة نفسي، كأنني أمسكت بخيط دخان وتوهمت أنه جدار!
..لكنه لم يحقد.
وإذ كان يعرف من أين تُؤكل الكتف، وأين توضع الكلمات كي تُشعل لا لتُطفئ. 
هو رجلٌ قرأ السياسة كأنها شعر، ومشى في الألغام ولم ينفجر. الله يفتح عليه.!
بل في زمن تتعفن فيه المواقف، يظل أمثاله كمن يمشي في الطين دون أن تتلوث قدماه.   ولقد علمني أن الاختلاف لا يُفسد الإيمان بالفكرة، وأن الطعن لا يأتي من أمامك، بل من خيانة ظنك.
نعم ..هكذا فهمت متأخرا: ليس كل صدام خيانة، أحيانا هو مرآة ضرورية.!