Logo

شيخٌ يوقظُ الجبال: من فتيل حنتوس إلى شعلة التحرُّر

 يا أهل اليمن، يا حُرّاس التاريخ، يا مَن مهرتم الرمل بخيولكم وتركتم في شقوق الصخر أنفاسَ أسلافٍ كانوا إذا قالوا فعلوا… إنَّ شيخًا عجوزًا، تُخضِّب السنينُ لحيته بفضَّة الحكمة، هزَّ عرش الكهف فأيقظ كهنته من سباتهم. 

ذاك صالح حنتوس؛ جسدٌ واهنٌ في ظاهر الأمر، لكن روحه طوفانٌ لا تسعه ضفافُ القهر. حين مدّوا نحوه عشرات الأطقم العسكرية، ظنّوا أنهم يغلقون عليه باب الحياة، فإذا بهم يفتحون باب الأسطورة. تُرى، 

لو كان الشيخُ فتىً تُدوِّي في عروقه صواعقُ الشباب، أو لو كان خلفه ركبٌ من الفتية الهائمين بحريّةٍ تُعانق السماء، كيف كان سيبدو المشهد؟ لربما اشتعلت الأرض تحت أقدامهم وأمطروها بصواريخهم ومسيراتهم كما تحترقُ أوراقُ الخريف قبل أن يلامسها الشتاء.

إنَّ الجُبن ـ يا رفاق ـ سيفٌ ذو حدٍّ واحد؛ يجرح صاحبه قبل أن يمسَّ خصمه. فالخائفُ يطلق الرصاص لا طلبًا للنصر، بل ستارًا على رعشةِ يديه. 

وما هؤلاء الكهنة إلا غبارَ خوفٍ متراكمٍ فوق قلوبٍ خاوية، يتوهَّمون أن الدبابة تعوِّضُ فراغَ العقيدة، وأن أزيز الطائرة يُخفي صريرَ سلاسل العبودية التي يقايضون بها الروح. لكن هل يحجب الدخانُ الشمس؟ وهل يُسكِتُ الرعدُ صوتَ المهدِ إذا بكى؟

لقد زعموا أنهم «أنصار الله»، فجعلوا الاسمَ عارًا على منابر الأسماء؛ ادَّعوا «مسيرةً قرآنية»، فإذا بهم يسدّون الطريق إلى المصحف كما يُسدُّ فمُ النهر بمتاريس الطمي؛ جعلوا آيات العدل عقودَ إذعانٍ، وموائدَ الخُمس جِعابًا يكدِّسون فيها أقواتَ الناس.

 أيُّ قرآنٍ هذا الذي يُشهرونه سيفًا على رقابِ مَن يدرِّس القرآن؟ وأيُّ رسالةٍ تلك التي تختزلُ رحمةَ السماء في حُقوق البطنين وألقاب الورثة؟

يا صنَّاع الفجر… لقد دخل أجدادُكم الإسلامَ ملوكًا لا رعايا؛ حملوا رايته ليوحِّدوا القبائلَ تحت ظلِّ العدل، 

لا ليحوِّلوا الرسالة إلى مُلكٍ يتوارثونه؛ فلو كانت المسألةُ مَلكًا لما قبل بها أجدادُكم، وهم ملوك الأرض وبُناة الحضارات، بل لقاتلوها ودفنوها في المهد. 

فليَعلم الشذّاذُ أن الأرض التي أنجبت الأوسَ والخزرج، وألبست التاريخ بردة الحضارم والأشاعرة، لن ترضى بعمامةٍ تُباع وتُشترى على أرصفة الوهم.

إنهم يركِّزون أوتادهم كلَّ يوم؛ يحفرون الخوفَ خندقًا حول العقول، لكن الله يفضحهم كما يفضح الصبحُ نجومَ الزيف حين ينهض. 

أرادوا أن يُطفئوا وهج الشيخ حنتوس، فإذا باسمه يطير فوق رؤوسهم كرمحٍ من نور. وكلما كمّموا فمًا، انفتحت حناجر المدن مآذن تهتف: «أخرجوا من كهفكم؛ لقد طال الليل وكُسر القفل.»

﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾

يا شعبَ الحكمة والإيمان… إن الذلَّ عادةٌ تُكسر كما تُكسر السلاسل، والجهلُ عُتمةٌ يفضحها أولُ عودِ ثقاب. لا تقولوا إن السنينَ أنهكتكم؛ فشيخٌ ثمانينيٌّ كتب بإصراره فصلاً من سفر الخلاص. 

ثقوا أن قصة سعيد بن جبير لم يطوها الهدهد في سرّ الغابرين؛ ها هي تعود في صدى حنتوس، وفي دعائه المسافر بين الشعَب والسهول: «اللهم لا تسلِّطهم على أحدٍ بعدنا.» وسيُستجابُ الدعاء إذا استيقظت قلوبكم قبل أن تستيقظ البنادق.

اجعلوا من الشيخ أيقونةً، لا جدارَ تعليق عابر. انسجوا اسمه رايةً فوق المنازل، وانحتوه على المقاعد الخشبية في المدارس الجديدة التي ستُدرِّس القرآن بلا رقيب من الخوف. 

اكسروا الأختام عن كتب التنوير، وانثروا الحروف محرَّراتٍ من سجن الملازم. ازرعوا الأشجار حيث خلَّفوا الخرائب؛ فالجذورُ أقوى من أسوار القهر، والأغصانُ تكتب البيانَ الأخضر على صفحة السماء.

يا أبناء سبأ… الكهنوتُ فيروسٌ يبحث عن عُتمةٍ ليعيش؛ افتحوا نوافذ العقل، فيموت اختناقًا بنوركم. امسحوا الغبار عن وجه تاريخكم، واكتبوا بمداد الشمس: «هنا وُلدت الحرية، وهنا يُدفَن الزيف.» فأنتم ـ لا سواكم ـ أصحابُ القرار الأخير:

 إمّا أن تبقوا رهائن كهوفٍ تقتاتُ على خوفكم، وإمّا أن تكونوا المنارة التي تعيد لليمن مجده، وللإنسان صوته، وللسماء معناها.